[font=Times New Roman][color=darkred][size=24][center][b]
العذاب الأدنى
حقيقته ، أنواعه ، أسبابه
تأليف
د محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رُسُله رحمةً بالخلق، ودعوةً إلى الحق، وإرشادا إلى الهدى، وتحذيرا من الردى، ووعدوهم بالحسنى، وخوفوهم من سوء العقبى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قضى وقدّر، وشرع وأمر؛ فكان تقديره غاية الكمال وعين الحكمة، وكان في شرعه تمام المنة، وسابغ النعمة، فله الحمد على حكمته وحكمه، وله الشكر على نعمته ومنته، وأشهد أن محمدا رسول الله ، أدى الرسالة، ونصح للأمة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، ودعا إلى أعظم مطلب، وحذر من شر منقلب، وسار على منهج رباني، مقتفيا أثر أولئك الأخيار الذين قيل له عنهم:أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.( ) فبشّر كما بشروا، وأنذر كما أنذروا؛ إذ هم جميعا قالوا لأقوامهم: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، فمن صدقهم واتبع النور الذي جاءوا به؛ سَلِمَ ونجا، ومن كذبهم وتنكب طريقهم؛ خاب وخسر، وأدركه العذاب في الدنيا والآخرة.
وإن الناظر في القرآن الكريم والسنة النبوية يجد من ذلك شيئا كثيرا، يجد مسيرة طويلة وتاريخا عظيما لما بين الرسل وأقوامهم من التبشير والإنذار، ومن النصر أو العذاب والهلاك والتدمير، ففي خبر كل نبي ورد ذكره في القرآن تجد انتصاره واضحا جليا، وإهلاكا لقومه عاجلا ماحقا.
وتجد هذا العذاب العاجل الماحق يوصف في القرآن بأنه (عذاب الخزي) في الدنيا، فما بالك بالعذاب التام يوم القيامة، كما في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ( )، وتارة يوصف بأنه عذاب دون العذاب الأكبر، كما في قوله تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( )، وتارة ثالثة يوصف بأنه العذاب الأدنى، كما في قوله جل ثناؤه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( ). وهذه الآية الأخيرة – آية السجدة – استوقفتني كثيرا، وتأملت ما دلت عليه، ودفعني ذلك إلى البحث في القرآن الكريم عن نظائرها، وعن أسباب هذا العذاب الأدنى، وعن أنواعه؛ فكان هذا البحث الذي بين يدي القارئ، اجتهدت فيه أن يكون محققا لغرضه، وافيا بمقصده، يبين للقارئ أسباب العذاب فيجتنبها، ويستعرض بعض الشبه التي قد تعرض في هذا الباب فيفندها، ويورد بعض التساؤلات التي تتردد في الأذهان فيجيب عليها .
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث، أما المبحث الأول فكان بيانا لحقيقة العذاب الأدنى، وأما المبحث الثاني فيتناول آية السجدة ونظائرها في القرآن الكريم، وأما المبحث الثالث فيتضمن أسباب العذاب ، وخصصت المبحث الرابع لأنواع العذاب ، أجارنا الله وإياك من العذاب في الدنيا والآخرة .
فأسأل الله أن يجعل هذا البحث من العلم الخالص النافع، الذي يكون نورا وزادا في الدنيا والآخرة، فإن وفقت فيه فمن الله، وإن كانت الأخرى فمن النفس المطبوعة بطابع النقص والضعف، ومن الشيطان الذي يسول القبيح ويأمر به ويزيّنه، والحمد لله أولا وآخرا، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة وهدى للعالمين
د/ محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
جامعة الملك سعود
كلية التربية قسم الدراسات الإسلامية
7/2/1426هـ
تمهيد
إن التاريخ البشري مليء بالعبر والدروس، وإن المتأمل لحياة البشر على هذه البسيطة يجد أنها صراع بين الحق والباطل، وأنها تعيش بين مد وجزر فيما يتعلق بطاعتها وعصيانها وقربها وبعدها عن ربها، وتبعا لذلك فإنها يتنزل عليها النصر، أو يحل بساحتها العذاب، بحسب طاعتها أو عصيانها، وهذا العذاب يعم ويخص ويحيط، وقد يعاجل ويباغت، وقد يمهل الله العاصي – سواء كان فردا أو أمة – ويحل بأمة لتكون عبرة لغيرها، وينزل بآخرين نكالا لهم وتخويفا لغيرهم؛ لعلهم يرجعون... وهذا وغيره يجعل بعض الكتاب في مثل هذه الأزمنة التي ظهر فيها الجهل، وتتابعت فيها الفتن، وتكاثرت فيها المثُلات – يفسر هذه الأحداث تفسيرا طبعيا على أنها تفاعلات طبعية، وانزلاقات في القشرة الأرضية، لا ارتباط بينها وبين سلوك الناس وتصرفاتهم، وقربهم وبعدهم عن ربهم، وعن الصراط المستقيم،( ) كما تدفع البعض أحيانا إلى التساؤل حول الإمهال والإملاء والمباغتة والإنظار، ومن هذه الأسئلة:-
- هل عدم العقوبة دليل على رضى الله عنهم ؟.
- لماذا تفلت الدول المتغطرسة( ) من العذاب، بينما يحل العذاب على الدول المسلمة؟.
- متى يكون العذاب خاصا، ومتى يكون عاما؟.
- إذا وقعت العقوبة شملت الصالح والطالح والمحسن والمسيء فما مصير الصالح ؟.
- إذا كان الرسول بعثه الله رحمة للعالمين فكيف يقول المسلم : إن الآيات التي يسلطها على الكافرين تعد عذابا لهم ؟!. فأين رحمة المسلم لغيره من بني البشر؟!.
- ما الفرق بين الابتلاء للمؤمنين والعذاب للمعاندين؟.
هذه الأسئلة وغيرها سيكون عليها مدار البحث في المبحث التالي وفي المباحث اللاحقة.
المبحث الأول
حقيقة العذاب الأدنى
حقيقة العذاب الأدنى
كثيرا ما يذكر الله في كتابه الكريم العذاب الأكبر، ويتوعد بالعذاب الشديد، فتتداعى على الذهن أسماء هذا العذاب كالحميم والزقوم والغسلين، وتنبعث في القلب صور السلاسل والأغلال والسرابيل والأصفاد، وترد على الفكر مشاهد الحساب والوزن والمساءلة والسوْق إلى الجحيم ... إلى آخر ما هنالك من مشاهد وصور ومواقف وعرصات، ترتعد منها قلوب الذين يخشون ربهم، وتوجل منها نفوس عمرت بطاعة الله، ولعمر الحق إن هذا الوعيد لكاف في ردع النفوس عن الهوى، وزجرها عن الردى.
ولكن تتقحم النفوس في شهواتها، وترتع في مراتع الغي، وتتجاوز الحدود الإلهية، فتجد أن الله سبحانه وتعالى يتوعد المعاندين والمفسدين بعذاب دون عذاب أكبر - لعل النفوس ترجع عن غيها، وتفيق من سكرتها - فيبين أنما أحلّه بالمعاندين من المثلات والنكال في الحياة الدنيا هو من العذاب الأدنى، فقال عز من قائل: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( ).
فما العذاب الأدنى ؟ وما حقيقته؟ ولماذا ينزل؟ ومتى ينزل؟ ولماذا ينزل على قوم وينجو منه آخرون؟.
فالعذاب:هو النكال والعقوبة يقال: عذبته تعذيبا وعذابا.( )
وفي هذه الآية الكريمة التي عليها مدار البحث جاء لفظ الأدنى، للتعبير عن العذاب الدنيوي، ولفظ الأدنى يقابله الأقصى، والأكبر يقابله الأصغر, فما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر في سياق الآية هذه الكريمة؟ قال الفخر الرازي عفا الله عنه موضحا الحكمة من ذلكحصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما أنه قريب، والآخر أنه قليل صغير , وحصل في عذاب الآخرة - أيضا- أمران: أحدهما أنه بعيد، والأخر أنه عظيم كثير , لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح للتخويف به , فإن العذاب العاجل و إن كان قليلا قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا , وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس، ويستبعد الثواب العظيم الآجل، وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير، لا البعيد لما بيّنا، فقال في عذاب الدنيا العذاب الأدنى ؛ ليحترز العاقل عنه، ولو قال: لنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان يحترز عنه؛ لصغره وعدم فهم كونه عاجلا، وقال في عذاب الآخرة: الأكبر؛ لذلك المعنى , ولو قال: دون العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به، مثل ما يحصل بوصفه بالكبر , و بالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما، لحكمة بالغه). ( )
أما حقيقة العذاب الأدنى: فهو كل عذاب عذب الله به أمة من الأمم أو فردا من الأفراد، في دار الدنيا أو في دار البرزخ،( ) وسواء أكان هذا العذاب عاما كعذاب قوم نوح، أم كان خاصا، كما حصل لقارون، وسواء كان حسيا كالغرق والخسف والمسخ والزلزلة والصيحة، أم كان معنويا، كطمس الأبصار، والختم على القلوب، والطبع عليها، وعدم إجابة الدعاء، وتسليط الشياطين، وسواء أكان هذا الذنب تطاولا على الخالق كالشرك، وتكذيب الرسل، أم كان تعديا على المخلوقين كقتل المستضعفين، والتطفيف في الموازين، وقد يعجل الله العقوبة ويباغت بالذنب قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( ). وقال سبحانه وتعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ( ) .
وقد يجمع الله على المعاندين عذاب الدنيا وعذاب البرزخ، كما قال الله سبحانه وتعالى مخبرا عن قوم فرعون وأنه سلط الله عليهم الطوفان والجراد والقمل:فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ( ). وقال جل ثناؤه عن عذابهم في قبورهم:النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( ) فالنار التي يعرضون عليها غدوا وعشيا؛ إنما يعرضون عليها وهم في قبورهم، كما سيأتي تفصيله، إن شاء الله .
وقد يتأخر العذاب الدنيوي، ويظن المغرور أنه على خير؛ خاصة إذا رأى نعم الله متوالية عليه، ومننه مترادفة إليه، ولا يعلم أن ما بينه وبين عذاب الله إلا كلمح البصر، كما وقع لقوم لوط عليه السلام حينما كذبوه وخالفوا أمره، فدعا ربه عليهم؛ فإذا المراسيم الإلهية تتنزل بهلاكهم (فو الله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السحر وطلوع الفجر؛ وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب، ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الذي لا يرد، من عند الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبرائيل، بأن يقلبها عليهم، كما أخبر به في محكم التنزيل، فقال عز من قائل: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ( ) فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالا وسلفا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين).( )
وقد يؤجل العذاب إلى الدار الآخرة؛ زيادة في النكال: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ). ويحسب الكافر أن ما يملي له الله خير لنفسهوَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ.( ) ويظن من لا خلاق له ولا علم عنده أنهم على هدى مستقيم؛ لما يرى من تمتعهم بالحياة، وسلامتهم من النكال، ولا يعلم أن ما هم فيه من متاع الحياة إنما هو من تعجيل جزائهم على أعمالهم، قال تعالى:وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ.( ) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية فجوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي؛ جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظعة). ( ) وقال تعالى موضحا أن ما يرزقون في هذه الحياة من المال والبنين وسعة العيش؛ إنما هو من المسارعة لهم في جزاء أعمالهم: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ( )
ويتنزل التوجيه القرآني تسلية للنبي وللمؤمنين ألا يحزنهم تمتع الذين كفروا، ولا يغرنهم تقلبهم في البلاد لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.( ) وما ربك بظلام للعبيد؛ فهؤلاء قوم عملوا للحياة ، ونذروا أنفسهم للحياة، رغبوا أن تكون حسناتهم في هذه الحياة ؛ فكان الجزاء من جنس العمل قال تعالى:مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( ).
ويقول الشيخ محمد العثيمين رحمه اللهإن كثيرا من الناس اليوم يعزون المصائب التي يصابون بها - سواء كانت المصائب مالية اقتصادية, أو أمنية سياسية - يعزون هذه المصائب إلى أسباب مادية بحتة, إلى أسباب سياسية أو أسباب مالية أو أسباب حدودية. و لا شك أن هذا من قصور أفهامهم، و ضعف إيمانهم، وغفلتهم عن تدبر كتاب لله وسنة رسوله ، إن وراء هذه الأسباب أسبابا شرعية , أسبابا لهذه المصائب أقوى و أعظم تأثيرا من الأسباب المادية، لكن قد تكون الأسباب المادية وسيلة لما تقتضيه الأسباب الشرعية من المصائب و العقوبات. قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ).
وهذه العقوبات التي ذكرنا طرفا منها – وسيأتي تفصيلها – يلاحظ القارئ أن بين الذنب وبين العقوبة تناسبا عظيما، فإذا منع العباد زكاة أموالهم؛ منعوا القطر من السماء، وإذا تركوا التحاكم إلى كتاب الله؛ جعل الله بأسهم بينهم، وإذا طلب كثرة المال من طريق الربا، محق الله أمواله، وقد قال ابن ابن القيم رحمه اللهفعقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه، وأوفقها للعقل، وأقومها بالمصلحة،...إلى أن يقول: وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية وقدرية، فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها، ولا يكاد الرب تعالى يجمع على عبده بين العقوبتين إلا إذا لم يف أحدهما برفع موجب الذنب). ( )
ويقول أيضا: (والمقصود أن عقوبات السيئات تتنوع: إما في القلب، وإما في البدن، وإما فيهما، وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت، وعقوبات يوم عود الأجسام في الدار الآخرة، فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة؛ لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم، فإذا استيقظ وصحى أحس بالمؤلم، فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق علي النار، والكسر على الانكسار، وقد تقارن المضرة الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيرا وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أن يقارنه، وكثيرا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام، ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه، ولا يدري أنه يعمل، وعمله على التدريج شيئا فشيئا، كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القذة بالقذة).( )
وبعد بيان حقيقة العذاب، يتبقى في هذا المبحث مسائل، في بسطها وتناولها الإجابةُ على الأسئلة التي وردت في التمهيد، وهذه المسائل هي :-
المسألة الأولى : هل عدم العقوبة الدنيوية دليل على الرضى عن العاصي ؟.
سبق الحديث في صدر هذا المبحث عن حقيقة العذاب وأنه قد يعجّل وقد يؤخر، وقد يجمع على المعاند عذاب الدنيا، وعذاب البرزخ، وعذاب الدار الآخرة، وقد تعجل له طيباته في الدنيا، ويدخر له العذاب كاملا في الدار الآخرة ، وإذا كان ذلك كذلك فإن عدم حلول العقوبة العاجلة على العاصي ليس دليلا على رضى الله عليه؛ بل هذا من مكر الله بأعدائه،كما قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ( ) قال ابن القيم رحمه الله فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم، وأنساهم أنفسهم كما قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين:-
إحداهما: أنه سبحانه نَسِيَه.
والثانية: أنه أنساه نفسه.
ونسيانه سبحانه للعبد، إهماله وتركه، وتخلّيه عنه، وإضاعته، ونسيانه، فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم. وأما إنساؤه نفسه: فهو إنساؤه لحظوظها العالية، وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها وما يكملها، بِنَسْيه ذلك كله جميعه، فلا يخطر بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همّته، فيرغب فيه، فإنه لا يمر بباله حتى يقصده ويؤثره، وأيضا فينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها، وأيضا فينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها، فلا يخطر بقلبه مداواتها، ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد والهلاك، فهو مريض مثخن بالمرض، ومرضه مترام به إلى التلف، ولا يشعر بمرضه، ولا يخطر بباله مداواته، وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة؛ فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه، وضيعها؟). ( )
هذا من وجه، ومن وجه آخر ليعلم العبد أن كل شيء عنده سبحانه وتعالى بقدر كما قال جل ثناؤه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار( ) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية يخبر تعالى عن جهل المكذبين لرسوله، المشركين به، الذين وُعِظُوا فلم يتعظوا، وأقيمت عليهم الأدلة فلم ينقادوا لها؛ بل جاهروا بالإنكار، واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم، وعدم معاجلتهم بذنوبهم، أنهم على حق، إلى أن يقول: وكل شيء عند بمقدار لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه) ( ) واستدل القرطبي رحمه الله لهذا المعنى بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ( ) . وقال - بعد أن ذكر شيئا من حكم خلق السموات والأرض في ستة أيام - وحكمة أخرى خلقها في ستة أيام؛ لأن لكل شيء عنده أجلا. وبيّن بهذا ترْك معاجلة العصاة بالعقاب؛ لأن لكل شيء عنده أجلا، وهذا كقوله:وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون. بعد أن قال:وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا )( ).
ومن وجه آخر أيضا فأن للعذاب أجلا مسمى وميقاتا معلوما لا يتأخر عنه ولا يتقدم، فانظر كم لبث نوح عليه السلام في قومه يدعوهم ليؤمنوا، وهم يكذبونه ويتهمونه، قال تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا ( ) ، وكم أقام موسى عليه السلام يدعو فرعون وقومه، ولما استيأس من استجابتهم دعا عليهم؛ فقال الله له: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ( ). قال ابن جرير رحمه اللهقال ابن جريج: يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. وقوله: وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يقول: ولا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعدي لا خُلف له، وإن وعيدي نازل بفرعون، وعذابي واقع به وبقومه)( ). وأقامالرسول بمكة ثلاثة عشر عاما يحاور قومه، ويجادلهم، ويدعوهم، ويقيم لهم الآيات والبراهين، وهم يقابلون ذلك كله بالإنكار والتكذيب حتى نزل بهم العذاب العاجل في يوم بدر.
المسألة الثانية : لماذا تفلت الدول المتغطرسة الظالمة من العقوبة، وتحل العقوبات بالدول المسلمة؟!
والجواب عن هذا السؤال من وجوه :-
الأول : أن الدول الظالمة تحل فيها المثلات كما تحل بغيرها، فاضطراب الأمن ، والعجز الاقتصادي، وتفشي الأمراض، والفياضانات المدمرة، والحرائق المروعة، والحروب الطاحنة، كل ذلك يحدث فيها، فقد خاضت هذه الدول حروبا راح ضحيتها الآلاف من أبنائها، فكم فقدت أوربا من مئات الآلاف في الحربين العالميتين، وكم فقدت أمريكا وروسيا من جنودها في السنوات الأخيرة، من خلال الحروب التي شنتها على بعض الدول المستضعفة؛ فخرجت منها خاسئة حسيرة، تجر أذيال الهزيمة، وكذلك من العذاب الذي يصبه الله عليهم تفَرّق الدول وذهاب ريحها وتمزقها، فلقد كانت الإمبراطورية العظمى (بريطانيا) لا تغيب عنها الشمس، وكان الاتحاد السوفيتي مكونا من عشرات الدول فإذاهما مشردان على موائد الدول، تمارس عليهما الظغوط التي كانا يمارسانهما على من دونهما، أفلم يكن في زوالهما عبرة وآية؟ فكم شردا وتجبرا، ومارسا الطغيان والظلم.
الثاني: أن الدول التي تظلم وتتعدى ولا تنزل بها المثلات ينبغي أن ينظر إليها من باب الإملاء والإنظار والمكر، وتأخير العذاب إلى يوم القيامة؛ ليذوقوا العذاب الأليم كاملا غير منقوص، قال تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ( ). وقال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ) فقد لا يشاهد المتعجل العذاب، ويظن أن تقلبهم في البلاد خير لهم.
الثالث: أن الدول المتقدمة قد تتخذ من الاحتياطات ما تخفف به وقع هذه الكوارث، ولكنها لا تستطيع أن تمنعها، كما لا تستطيع أن تعلم بها قبل وقوعها، وما تتوصل إليه في هذا الشأن ليس بسبب دينها – فقد تركته وراءها ظهريا – بل لأنها بذلت الأسباب التي تحقق لها ذلك، ولو بذلها غيرها لتحقق له مثل ما تحقق لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل لهذا الكون سننا ونواميس، من عمل بها وصل من خلالها إلى ما رُتّب عليها .
الرابع : أن من يقع عنده مثل هذا الإشكال فلأنه حصر نظره في فترة زمنية واحدة فيما يحل على هذه الدول، ونظر إلى كارثة واحدة، ولم ينظر إلى التاريخ البشري وما تتابع فيه من الآيات والنذر، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى ( ) . وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ( ) .
الخامس : أن العذاب إذا نزل على المسلمين فهو رحمة بهم، وتكفير لخطاياهم، وتذكير لهم لعلهم يرجعون إلى ربهم، فيعبدونه حق عبادته، قال الشيخ السعدي رحمه الله يعصونه فيدعوهم إلى بابه، ويجرمون فلا يحرمهم خيره وإحسانه، فإن تابوا إليه فهو حبيبهم، لأنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين،وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب؛ ليطهرهم من المعايب) ( ). وبين سبحانه وتعالى أن ما يبتلي به عباده المؤمنين إنما هو سبيل بشارة لهم، وسبب مغفرة ورحمة لهم، وصلاة عليهم، فقال عز من قائل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( ). وقال جل ثناؤه: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ). وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ).
المسألة الثالثة : متى يكون العذاب خاصا ، ومتى يكون عاما ؟! وإذا وقعت العقوبة شملت الصالح والطالح، والمحسن والمسيء، فما مصير الصالح ؟.
إن الله سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، والأمر الرشيد، حكمه العدل، وقوله الحق، حرم الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرما، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، حجة على الخلق، وشرع التوبة، وأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لئلا يتنزل العذاب على عامة الأمة، قال سبحانه وتعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ( )
قال ابن جرير الطبري رحمه الله وما كان ربك - يا محمد - ليهلك القرى التي أهلكها - التي قص عليك نبأها – ظلما، وأهلها مصلحون في أعمالهم غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم - مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم - ظلما، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم وركوبهم السيئات). ( )
فإذا انتهكت محارم الله، وعصيت أوامره، واستعلن بالفواحش؛ حلّ العذاب، ونزل النكال، وحاق بالمفسدين سوء أعمالهم، فيرسل الله عذابه ونقمته على المعاندين، كما قال تعالى مخبرا عن حال ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ( )، وقال جل ثناؤه في بيان خبر لوط مع قومه: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( ). فانظر كيف عمهم العذاب، وأنجى الله سبحانه وتعالى، بمنه وكرمه أولياءه وحزبه المفلحين، وسألت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها : هل ينزل العذاب وفي الأمة الصالحون؟ قائلة: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟. فأجابها الذي لا ينطق عن الهوى،قائلا: (نعم إذا كثر الخبث!!) ( )
وبين النبي أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنهم وإن هلكوا مهلكا واحدا، فإن الله يبعثهم على نياتهم، فقال رسول الله يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض؛ خسف بأولهم وآخرهم. قالت عائشة: يا رسول الله! وفيهم سواهم، ومن ليس منهم؟. قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم).( )
فيكون العذاب حينئذ عاما إذا كان الفساد عاما، وينجي الله المتقين، ويكون النكال خاصا إذا كان المنكر خاصا غير مستعلن، كما قال عز من قائل في خبر قارون: فخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ( ).
المسألة الرابعة : إذا كان الرسول بعث رحمة، فكيف يقول المسلم: إن الآيات التي يسلطها الله على الخلق تعّد عذابا لهم؟! فأين رحمة المسلم لغيره من البشر؟! .
من كمال رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب، فكانت رسالات الرسل تجمع بين الدلالة على الخير، والتحذير من الشر، ترغيبا وترهيبا، بشارة ونذارة، قال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا( ).
وكانت رسالتهم هداية للناس ورحمة، قال تعالى عن موسى عليه السلام -كما قال عن غيره-: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً ( ). وقال عز من قائل عن عيسى عليه السلام: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ( ).
ومع كونهم أرسلوا رحمة للعالمين، فكل رسول قال لقومه: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، فهذا نوح عليه السلام يقول كما أخبر الله عنه:يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( ) . وهذا شعيب يقول لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيط .( ) وكذلك هود خاف على قومه فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ). ودعا الخليل أباه إلى الله، وخوفه مما يعلم، فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا.( ) وهذا إمام الأنبياء والمرسلين يخاف عذاب ربه، إن هو عصاه، ويأمره ربه أن يقول لقومه - كما ذكر الله عنه-: قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( ). ويأمر قومه بالاستغفار، ويخبرهم أنهم إن تولوا عن طاعة ربهم فإنه يخاف عليهم العذاب الكبير، فقال عز من قائل: وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( ).
فكل الأنبياء – ما عدا الخليلين – عليهم السلام لما كُذّبوا دعوا على قومهم بالعذاب وبالاستئصال، فقال نوح عليه السلام، كما أخبر الله عنه: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا( ). وقال جلّ ثناؤه عن موسى عليه السلام :وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. ( )
وأخبر النبي أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل نبي دعوة مستجابة، وأن كل نبي تعجل دعوته، وأنه من رحمته بأمته ادخر دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة، فعن أنس عن النبي قال كل نبي سأل سؤلا، أو قال: لكل نبي دعوة قد دعا بها؛ فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ( ) وفي رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا). ( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومحمد وإبراهيم أفضل الرسل؛ فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود، وقد يتوب منهم من يتوب بعد ذلك، كما تاب من قريش من تاب، وأما حال إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل، فلم يسع في هلاك قومه لا بالدعاء، ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم، وقد قال تعالى:وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ( )....والخليلان هما أفضل الجميع، وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريقة غيرهما).( )
فنبينا محمد رحمة للعالمين من كل وجه، باعتبار ما حصل من الخير العام به، وما حصل للمؤمنين به من سعادة الدنيا والآخرة، وباعتبار أنه في نفسه رحمة، فمن قَبِلَها وإلا كان هو الظالم لنفسه، وباعتبار أنه قمع الكفار والمنافقين، فنقص شرهم، و عجزوا عما كانوا يفعلونه بدونه.( )
فالرسول رحمة للخلق في دعوته وفي سلمه وفي حربه، يقول ابن القيم رحمه الله وأما نبي الرحمة فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين؛ فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم، أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة، وأما الكفار: فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم هو وأمته فإنهم عجلوا به إلى النار، وأراحواه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة العذاب في الآخرة).( )
والعذاب والنكال الذي توعدت به الرسل أقوامهم لم يكن مجرد تهديد ووعيد؛ بل إذا تنكبت الأقوام عن الصراط، وعاندت المرسلين، واستكبرت على رب العالمين؛ فحينئذ يحق القول، وينزل بهم ما كان أنذرهم إياه رسولهم، كما قال تعالى: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.( )
وبين سبحانه وتعالى أن هذا العذاب الذي يصيب به أعداءه، إنما هو عذاب خزي لهم في الحياة الدنيا، وهو عذاب هوان لهم، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ). وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن هذا العذاب المهين مستمر لكل من استكبر وطغى، فقال جل ثناؤه:وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( )
والرسول لم يكن بدعا من الرسل، فكما خاف على قومه المعاصرين له، وأنذرهم وخوّفهم؛ فقد خوف اللاحقين من أمته، وحذرهم من المعاصي والذنوب عموما، وحذرهم من معاص معينة محددة بعينها، وأخبرهم بما يترتب عليها من العذاب العاجل،( ) فإخباره أمته، وتحذيره إياها لا يتعارض مع كونه أرسل رحمة للعالمين، فمن كمال رحمته إنذاره، ومن كمال رحمته أنه سأل ربه أن لا يهلك أمته بسنة بعامّة، ، حيث قال سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)( ). بل لما بلغ به الأذى من قومه ما بلغ، وجاءه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين، قال مقالته الرحيمة المشهورة بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا).( )
ومن واجبه إبلاغ أمته بما ينتظرها، إن هي خالفت الأوامر الربانية، ومن كمال رأفته ورحمته أن يبين لأمته أسباب العذاب الذي يوشك أن يقع بها .
وحَمَلَة رسالته يقتدون بهديه، ويستنون بسنته، فيبشرون بما بشر به من سعة رحمة الله، وعظيم مغفرته،وفرحه بتوبة عبده، وينذرون بما أنذر به من أسباب الهلاك المترتب على مقارفة الذنوب والمعاصي. ولو لم يفعلوا لكان ذلك خيانة منهم لأمتهم، ومعصية لرسولهم .
فإذا وقع ما حذر منه الرسول ، فهذا مصداق نبوته ، ثم إذا قام العلماء بواجب التنبيه والتذكير فلا يتجه إليهم اللوم والتعنيف بسبب تحذيرهم وإنذارهم، ولا يعدّ عملهم هذا من باب الشماتة بمن وقعت عليهم هذه الأحداث، كما لا يعدّ قولهم هذا تزكية لأنفسهم ومجتمعهم، بل الجميع عرضة للخطأ، وعرضة لنزول العذاب إذا قارفوا أسبابه، وتعرضوا لما يسخط الجبار، سبحانه وتعالى .
المسألة الخامسة: ما الفرق بين الابتلاء للمؤمنين والعذاب للمعاندين؟.
ينبغي أن يُعلمَ أن الدنيا دار كبد وبلاء، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( ). وقال سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً( ). وقال سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( ) وأخرج أبو جعفر ابن جرير الطبري بسنده عن عبد الله بن عمر عن النبي أنه تلا هذه الآية: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً قال أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله).( ) فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه؛ وابتلاهم بالحسنات والسيئات، بالخير والشر؛ لينظر أيهم أحسن عملا، فمن أحسن فله الحسنى وزيادة، ومن أساء فله السوء بما قدمت يداه، وقد يبتلي الله الصالحين بالبلاء؛ رفعة لدرجاتهم، وتمحيصا لسيئاتهم، وليقتدي فيهم غيرهم، بالصبر والشكر على أقدار الله، قال تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( ). وأخرج الحاكم في المستدرك عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: سألت رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قالالنبيون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، إن كان صلب الدين اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة).( )
وبوّب البخاري رحمه الله في صحيحه بقوله: باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول، وأورد فيه حديث عبد الله قال: دخلت على رسول الله - وهو يوعك - فقلت يا رسول الله! إنك لتوعك وعكا شديدا؟! قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك أجرين، قال: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى - شوكة فما فوقها - إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها).( )
قال ابن حجر رحمه الله: ( ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد ، وإلحاق الأولياء بهم لقربهم منهم، وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسر فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضوعف حد الحُرِّ على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين: يَانِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ.( ) قال ابن الجوزي: في الحديث دلالة على أن القوي يحمّل ما حمل، والضعيف يرفق به، إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلي هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه؛ فيسلم ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به؛ لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم). ( ) وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله متى يعرف العبد أن هذا الابتلاء امتحان أو عذاب ؟ إذا ابتلى أحد بمرض أو بلاء سيء في النفس أو المال , فكيف يعرف أن ذلك الابتلاء امتحان أو غضب من عند الله ؟!.
فأجاب: الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، وبالشدة والرخاء, وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم، وإعلاء ذكرهم، ومضاعفة حسناتهم كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصلحاء من عباد الله, كما قال النبي : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)( ) , وتارة يفعل ذلك سبحانه بسبب المعاصي و الذنوب, فتكون العقوبة معجلة، كما قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ).فالغالب على الإنسان التقصير، وعدم القيام بالواجب، فما أصابه فهو بسبب ذنوبه وتقصيره بأمر الله, فإذا ابتلي أحد من عباد الله الصالحين بشيء من الأمراض أو نحوها؛ فإن هذا يكون من جنس ابتلاء الأنبياء والرسل، رفعا في الدرجات، وتعظيما للأجور، وليكون قدوة لغيره في الصبر والاحتساب، فالحاصل أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات، وإعظام الأجور، كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار, وقد يكون لتكفير السيئات كما في قوله تعالى : مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ( ). وقول النبي ما أصاب المسلم من هم و لا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها )( )، وقوله : (من يرد الله به خيرا يصب به )( ). وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي، و عدم المبادرة للتوبة كما في الحديث عنه أنه قال : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا , وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) خرجه الترمذي وحسنه). ( )
ونخلص من هذه المسألة إلى الحقائق التالية:-
1- أن الحياة الدنيا دار كبد وعناء، وليست دار نعيم وهناء خالص لا شائبة فيه.
2- أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه فابتلاهم بالحسنات والسيئات لينظر أيهم أحسن عملا .
3- أن الله تعالى - وله الحكمة البالغة - يبتلي المؤمنين ؛ رفعة للدرجات، وتعظيما للأجور.
4- أن الله جل ثناؤه يبتلي عباده؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليتميز المؤمن من المنافق، قال تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. ( )
5- أن ما يقدره الله سبحانه وتعالى - على العباد والبلاد - فله فيه جل ثناؤه الحكمة البالغة، والأمر الرشيد، قال تعالى:وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ( )
6- أن الله سبحانه وتعالى - وهو الغني الحميد - أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأقام الحجة على الخلق، فمن تنكب عن الصراط ، وخالف المنهج، فنزل به ما توعّد به؛ فقد أحقّ العذاب على نفسه وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ.( )
7- أنه ما من مصيبة تنزل في الناس أو تحل في الديار والبلاد إلا وهي مقدرة مكتوبة في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ .( )
8- أنه ما من وصب ولا نصب يصيب العبد أو بلاء عام يصيب الأمة إلا بسبب ما كسبته أيديهم، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ).وبعد بيان حقيقة العذاب الأدنى يحسن بنا أن نقف على الآية الكريمة التي كانت سببا في بحث هذا الموضوع، وما دلت عليه، وننظر في نظائرها ودلالاتها، فنسأل الله الإعانة والتوفيق
العذاب الأدنى
حقيقته ، أنواعه ، أسبابه
تأليف
د محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رُسُله رحمةً بالخلق، ودعوةً إلى الحق، وإرشادا إلى الهدى، وتحذيرا من الردى، ووعدوهم بالحسنى، وخوفوهم من سوء العقبى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قضى وقدّر، وشرع وأمر؛ فكان تقديره غاية الكمال وعين الحكمة، وكان في شرعه تمام المنة، وسابغ النعمة، فله الحمد على حكمته وحكمه، وله الشكر على نعمته ومنته، وأشهد أن محمدا رسول الله ، أدى الرسالة، ونصح للأمة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، ودعا إلى أعظم مطلب، وحذر من شر منقلب، وسار على منهج رباني، مقتفيا أثر أولئك الأخيار الذين قيل له عنهم:أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.( ) فبشّر كما بشروا، وأنذر كما أنذروا؛ إذ هم جميعا قالوا لأقوامهم: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، فمن صدقهم واتبع النور الذي جاءوا به؛ سَلِمَ ونجا، ومن كذبهم وتنكب طريقهم؛ خاب وخسر، وأدركه العذاب في الدنيا والآخرة.
وإن الناظر في القرآن الكريم والسنة النبوية يجد من ذلك شيئا كثيرا، يجد مسيرة طويلة وتاريخا عظيما لما بين الرسل وأقوامهم من التبشير والإنذار، ومن النصر أو العذاب والهلاك والتدمير، ففي خبر كل نبي ورد ذكره في القرآن تجد انتصاره واضحا جليا، وإهلاكا لقومه عاجلا ماحقا.
وتجد هذا العذاب العاجل الماحق يوصف في القرآن بأنه (عذاب الخزي) في الدنيا، فما بالك بالعذاب التام يوم القيامة، كما في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ( )، وتارة يوصف بأنه عذاب دون العذاب الأكبر، كما في قوله تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( )، وتارة ثالثة يوصف بأنه العذاب الأدنى، كما في قوله جل ثناؤه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( ). وهذه الآية الأخيرة – آية السجدة – استوقفتني كثيرا، وتأملت ما دلت عليه، ودفعني ذلك إلى البحث في القرآن الكريم عن نظائرها، وعن أسباب هذا العذاب الأدنى، وعن أنواعه؛ فكان هذا البحث الذي بين يدي القارئ، اجتهدت فيه أن يكون محققا لغرضه، وافيا بمقصده، يبين للقارئ أسباب العذاب فيجتنبها، ويستعرض بعض الشبه التي قد تعرض في هذا الباب فيفندها، ويورد بعض التساؤلات التي تتردد في الأذهان فيجيب عليها .
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث، أما المبحث الأول فكان بيانا لحقيقة العذاب الأدنى، وأما المبحث الثاني فيتناول آية السجدة ونظائرها في القرآن الكريم، وأما المبحث الثالث فيتضمن أسباب العذاب ، وخصصت المبحث الرابع لأنواع العذاب ، أجارنا الله وإياك من العذاب في الدنيا والآخرة .
فأسأل الله أن يجعل هذا البحث من العلم الخالص النافع، الذي يكون نورا وزادا في الدنيا والآخرة، فإن وفقت فيه فمن الله، وإن كانت الأخرى فمن النفس المطبوعة بطابع النقص والضعف، ومن الشيطان الذي يسول القبيح ويأمر به ويزيّنه، والحمد لله أولا وآخرا، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة وهدى للعالمين
د/ محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
جامعة الملك سعود
كلية التربية قسم الدراسات الإسلامية
7/2/1426هـ
تمهيد
إن التاريخ البشري مليء بالعبر والدروس، وإن المتأمل لحياة البشر على هذه البسيطة يجد أنها صراع بين الحق والباطل، وأنها تعيش بين مد وجزر فيما يتعلق بطاعتها وعصيانها وقربها وبعدها عن ربها، وتبعا لذلك فإنها يتنزل عليها النصر، أو يحل بساحتها العذاب، بحسب طاعتها أو عصيانها، وهذا العذاب يعم ويخص ويحيط، وقد يعاجل ويباغت، وقد يمهل الله العاصي – سواء كان فردا أو أمة – ويحل بأمة لتكون عبرة لغيرها، وينزل بآخرين نكالا لهم وتخويفا لغيرهم؛ لعلهم يرجعون... وهذا وغيره يجعل بعض الكتاب في مثل هذه الأزمنة التي ظهر فيها الجهل، وتتابعت فيها الفتن، وتكاثرت فيها المثُلات – يفسر هذه الأحداث تفسيرا طبعيا على أنها تفاعلات طبعية، وانزلاقات في القشرة الأرضية، لا ارتباط بينها وبين سلوك الناس وتصرفاتهم، وقربهم وبعدهم عن ربهم، وعن الصراط المستقيم،( ) كما تدفع البعض أحيانا إلى التساؤل حول الإمهال والإملاء والمباغتة والإنظار، ومن هذه الأسئلة:-
- هل عدم العقوبة دليل على رضى الله عنهم ؟.
- لماذا تفلت الدول المتغطرسة( ) من العذاب، بينما يحل العذاب على الدول المسلمة؟.
- متى يكون العذاب خاصا، ومتى يكون عاما؟.
- إذا وقعت العقوبة شملت الصالح والطالح والمحسن والمسيء فما مصير الصالح ؟.
- إذا كان الرسول بعثه الله رحمة للعالمين فكيف يقول المسلم : إن الآيات التي يسلطها على الكافرين تعد عذابا لهم ؟!. فأين رحمة المسلم لغيره من بني البشر؟!.
- ما الفرق بين الابتلاء للمؤمنين والعذاب للمعاندين؟.
هذه الأسئلة وغيرها سيكون عليها مدار البحث في المبحث التالي وفي المباحث اللاحقة.
المبحث الأول
حقيقة العذاب الأدنى
حقيقة العذاب الأدنى
كثيرا ما يذكر الله في كتابه الكريم العذاب الأكبر، ويتوعد بالعذاب الشديد، فتتداعى على الذهن أسماء هذا العذاب كالحميم والزقوم والغسلين، وتنبعث في القلب صور السلاسل والأغلال والسرابيل والأصفاد، وترد على الفكر مشاهد الحساب والوزن والمساءلة والسوْق إلى الجحيم ... إلى آخر ما هنالك من مشاهد وصور ومواقف وعرصات، ترتعد منها قلوب الذين يخشون ربهم، وتوجل منها نفوس عمرت بطاعة الله، ولعمر الحق إن هذا الوعيد لكاف في ردع النفوس عن الهوى، وزجرها عن الردى.
ولكن تتقحم النفوس في شهواتها، وترتع في مراتع الغي، وتتجاوز الحدود الإلهية، فتجد أن الله سبحانه وتعالى يتوعد المعاندين والمفسدين بعذاب دون عذاب أكبر - لعل النفوس ترجع عن غيها، وتفيق من سكرتها - فيبين أنما أحلّه بالمعاندين من المثلات والنكال في الحياة الدنيا هو من العذاب الأدنى، فقال عز من قائل: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( ).
فما العذاب الأدنى ؟ وما حقيقته؟ ولماذا ينزل؟ ومتى ينزل؟ ولماذا ينزل على قوم وينجو منه آخرون؟.
فالعذاب:هو النكال والعقوبة يقال: عذبته تعذيبا وعذابا.( )
وفي هذه الآية الكريمة التي عليها مدار البحث جاء لفظ الأدنى، للتعبير عن العذاب الدنيوي، ولفظ الأدنى يقابله الأقصى، والأكبر يقابله الأصغر, فما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر في سياق الآية هذه الكريمة؟ قال الفخر الرازي عفا الله عنه موضحا الحكمة من ذلكحصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما أنه قريب، والآخر أنه قليل صغير , وحصل في عذاب الآخرة - أيضا- أمران: أحدهما أنه بعيد، والأخر أنه عظيم كثير , لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح للتخويف به , فإن العذاب العاجل و إن كان قليلا قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا , وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس، ويستبعد الثواب العظيم الآجل، وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير، لا البعيد لما بيّنا، فقال في عذاب الدنيا العذاب الأدنى ؛ ليحترز العاقل عنه، ولو قال: لنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان يحترز عنه؛ لصغره وعدم فهم كونه عاجلا، وقال في عذاب الآخرة: الأكبر؛ لذلك المعنى , ولو قال: دون العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به، مثل ما يحصل بوصفه بالكبر , و بالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما، لحكمة بالغه). ( )
أما حقيقة العذاب الأدنى: فهو كل عذاب عذب الله به أمة من الأمم أو فردا من الأفراد، في دار الدنيا أو في دار البرزخ،( ) وسواء أكان هذا العذاب عاما كعذاب قوم نوح، أم كان خاصا، كما حصل لقارون، وسواء كان حسيا كالغرق والخسف والمسخ والزلزلة والصيحة، أم كان معنويا، كطمس الأبصار، والختم على القلوب، والطبع عليها، وعدم إجابة الدعاء، وتسليط الشياطين، وسواء أكان هذا الذنب تطاولا على الخالق كالشرك، وتكذيب الرسل، أم كان تعديا على المخلوقين كقتل المستضعفين، والتطفيف في الموازين، وقد يعجل الله العقوبة ويباغت بالذنب قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( ). وقال سبحانه وتعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ( ) .
وقد يجمع الله على المعاندين عذاب الدنيا وعذاب البرزخ، كما قال الله سبحانه وتعالى مخبرا عن قوم فرعون وأنه سلط الله عليهم الطوفان والجراد والقمل:فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ( ). وقال جل ثناؤه عن عذابهم في قبورهم:النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( ) فالنار التي يعرضون عليها غدوا وعشيا؛ إنما يعرضون عليها وهم في قبورهم، كما سيأتي تفصيله، إن شاء الله .
وقد يتأخر العذاب الدنيوي، ويظن المغرور أنه على خير؛ خاصة إذا رأى نعم الله متوالية عليه، ومننه مترادفة إليه، ولا يعلم أن ما بينه وبين عذاب الله إلا كلمح البصر، كما وقع لقوم لوط عليه السلام حينما كذبوه وخالفوا أمره، فدعا ربه عليهم؛ فإذا المراسيم الإلهية تتنزل بهلاكهم (فو الله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السحر وطلوع الفجر؛ وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب، ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الذي لا يرد، من عند الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبرائيل، بأن يقلبها عليهم، كما أخبر به في محكم التنزيل، فقال عز من قائل: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ( ) فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالا وسلفا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين).( )
وقد يؤجل العذاب إلى الدار الآخرة؛ زيادة في النكال: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ). ويحسب الكافر أن ما يملي له الله خير لنفسهوَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ.( ) ويظن من لا خلاق له ولا علم عنده أنهم على هدى مستقيم؛ لما يرى من تمتعهم بالحياة، وسلامتهم من النكال، ولا يعلم أن ما هم فيه من متاع الحياة إنما هو من تعجيل جزائهم على أعمالهم، قال تعالى:وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ.( ) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية فجوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي؛ جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظعة). ( ) وقال تعالى موضحا أن ما يرزقون في هذه الحياة من المال والبنين وسعة العيش؛ إنما هو من المسارعة لهم في جزاء أعمالهم: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ( )
ويتنزل التوجيه القرآني تسلية للنبي وللمؤمنين ألا يحزنهم تمتع الذين كفروا، ولا يغرنهم تقلبهم في البلاد لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.( ) وما ربك بظلام للعبيد؛ فهؤلاء قوم عملوا للحياة ، ونذروا أنفسهم للحياة، رغبوا أن تكون حسناتهم في هذه الحياة ؛ فكان الجزاء من جنس العمل قال تعالى:مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( ).
ويقول الشيخ محمد العثيمين رحمه اللهإن كثيرا من الناس اليوم يعزون المصائب التي يصابون بها - سواء كانت المصائب مالية اقتصادية, أو أمنية سياسية - يعزون هذه المصائب إلى أسباب مادية بحتة, إلى أسباب سياسية أو أسباب مالية أو أسباب حدودية. و لا شك أن هذا من قصور أفهامهم، و ضعف إيمانهم، وغفلتهم عن تدبر كتاب لله وسنة رسوله ، إن وراء هذه الأسباب أسبابا شرعية , أسبابا لهذه المصائب أقوى و أعظم تأثيرا من الأسباب المادية، لكن قد تكون الأسباب المادية وسيلة لما تقتضيه الأسباب الشرعية من المصائب و العقوبات. قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ).
وهذه العقوبات التي ذكرنا طرفا منها – وسيأتي تفصيلها – يلاحظ القارئ أن بين الذنب وبين العقوبة تناسبا عظيما، فإذا منع العباد زكاة أموالهم؛ منعوا القطر من السماء، وإذا تركوا التحاكم إلى كتاب الله؛ جعل الله بأسهم بينهم، وإذا طلب كثرة المال من طريق الربا، محق الله أمواله، وقد قال ابن ابن القيم رحمه اللهفعقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه، وأوفقها للعقل، وأقومها بالمصلحة،...إلى أن يقول: وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية وقدرية، فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها، ولا يكاد الرب تعالى يجمع على عبده بين العقوبتين إلا إذا لم يف أحدهما برفع موجب الذنب). ( )
ويقول أيضا: (والمقصود أن عقوبات السيئات تتنوع: إما في القلب، وإما في البدن، وإما فيهما، وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت، وعقوبات يوم عود الأجسام في الدار الآخرة، فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة؛ لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم، فإذا استيقظ وصحى أحس بالمؤلم، فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق علي النار، والكسر على الانكسار، وقد تقارن المضرة الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيرا وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أن يقارنه، وكثيرا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام، ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه، ولا يدري أنه يعمل، وعمله على التدريج شيئا فشيئا، كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القذة بالقذة).( )
وبعد بيان حقيقة العذاب، يتبقى في هذا المبحث مسائل، في بسطها وتناولها الإجابةُ على الأسئلة التي وردت في التمهيد، وهذه المسائل هي :-
المسألة الأولى : هل عدم العقوبة الدنيوية دليل على الرضى عن العاصي ؟.
سبق الحديث في صدر هذا المبحث عن حقيقة العذاب وأنه قد يعجّل وقد يؤخر، وقد يجمع على المعاند عذاب الدنيا، وعذاب البرزخ، وعذاب الدار الآخرة، وقد تعجل له طيباته في الدنيا، ويدخر له العذاب كاملا في الدار الآخرة ، وإذا كان ذلك كذلك فإن عدم حلول العقوبة العاجلة على العاصي ليس دليلا على رضى الله عليه؛ بل هذا من مكر الله بأعدائه،كما قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ( ) قال ابن القيم رحمه الله فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم، وأنساهم أنفسهم كما قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين:-
إحداهما: أنه سبحانه نَسِيَه.
والثانية: أنه أنساه نفسه.
ونسيانه سبحانه للعبد، إهماله وتركه، وتخلّيه عنه، وإضاعته، ونسيانه، فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم. وأما إنساؤه نفسه: فهو إنساؤه لحظوظها العالية، وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها وما يكملها، بِنَسْيه ذلك كله جميعه، فلا يخطر بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همّته، فيرغب فيه، فإنه لا يمر بباله حتى يقصده ويؤثره، وأيضا فينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها، وأيضا فينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها، فلا يخطر بقلبه مداواتها، ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد والهلاك، فهو مريض مثخن بالمرض، ومرضه مترام به إلى التلف، ولا يشعر بمرضه، ولا يخطر بباله مداواته، وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة؛ فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه، وضيعها؟). ( )
هذا من وجه، ومن وجه آخر ليعلم العبد أن كل شيء عنده سبحانه وتعالى بقدر كما قال جل ثناؤه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار( ) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية يخبر تعالى عن جهل المكذبين لرسوله، المشركين به، الذين وُعِظُوا فلم يتعظوا، وأقيمت عليهم الأدلة فلم ينقادوا لها؛ بل جاهروا بالإنكار، واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم، وعدم معاجلتهم بذنوبهم، أنهم على حق، إلى أن يقول: وكل شيء عند بمقدار لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه) ( ) واستدل القرطبي رحمه الله لهذا المعنى بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ( ) . وقال - بعد أن ذكر شيئا من حكم خلق السموات والأرض في ستة أيام - وحكمة أخرى خلقها في ستة أيام؛ لأن لكل شيء عنده أجلا. وبيّن بهذا ترْك معاجلة العصاة بالعقاب؛ لأن لكل شيء عنده أجلا، وهذا كقوله:وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون. بعد أن قال:وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا )( ).
ومن وجه آخر أيضا فأن للعذاب أجلا مسمى وميقاتا معلوما لا يتأخر عنه ولا يتقدم، فانظر كم لبث نوح عليه السلام في قومه يدعوهم ليؤمنوا، وهم يكذبونه ويتهمونه، قال تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا ( ) ، وكم أقام موسى عليه السلام يدعو فرعون وقومه، ولما استيأس من استجابتهم دعا عليهم؛ فقال الله له: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ( ). قال ابن جرير رحمه اللهقال ابن جريج: يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. وقوله: وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يقول: ولا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعدي لا خُلف له، وإن وعيدي نازل بفرعون، وعذابي واقع به وبقومه)( ). وأقامالرسول بمكة ثلاثة عشر عاما يحاور قومه، ويجادلهم، ويدعوهم، ويقيم لهم الآيات والبراهين، وهم يقابلون ذلك كله بالإنكار والتكذيب حتى نزل بهم العذاب العاجل في يوم بدر.
المسألة الثانية : لماذا تفلت الدول المتغطرسة الظالمة من العقوبة، وتحل العقوبات بالدول المسلمة؟!
والجواب عن هذا السؤال من وجوه :-
الأول : أن الدول الظالمة تحل فيها المثلات كما تحل بغيرها، فاضطراب الأمن ، والعجز الاقتصادي، وتفشي الأمراض، والفياضانات المدمرة، والحرائق المروعة، والحروب الطاحنة، كل ذلك يحدث فيها، فقد خاضت هذه الدول حروبا راح ضحيتها الآلاف من أبنائها، فكم فقدت أوربا من مئات الآلاف في الحربين العالميتين، وكم فقدت أمريكا وروسيا من جنودها في السنوات الأخيرة، من خلال الحروب التي شنتها على بعض الدول المستضعفة؛ فخرجت منها خاسئة حسيرة، تجر أذيال الهزيمة، وكذلك من العذاب الذي يصبه الله عليهم تفَرّق الدول وذهاب ريحها وتمزقها، فلقد كانت الإمبراطورية العظمى (بريطانيا) لا تغيب عنها الشمس، وكان الاتحاد السوفيتي مكونا من عشرات الدول فإذاهما مشردان على موائد الدول، تمارس عليهما الظغوط التي كانا يمارسانهما على من دونهما، أفلم يكن في زوالهما عبرة وآية؟ فكم شردا وتجبرا، ومارسا الطغيان والظلم.
الثاني: أن الدول التي تظلم وتتعدى ولا تنزل بها المثلات ينبغي أن ينظر إليها من باب الإملاء والإنظار والمكر، وتأخير العذاب إلى يوم القيامة؛ ليذوقوا العذاب الأليم كاملا غير منقوص، قال تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ( ). وقال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ( ) فقد لا يشاهد المتعجل العذاب، ويظن أن تقلبهم في البلاد خير لهم.
الثالث: أن الدول المتقدمة قد تتخذ من الاحتياطات ما تخفف به وقع هذه الكوارث، ولكنها لا تستطيع أن تمنعها، كما لا تستطيع أن تعلم بها قبل وقوعها، وما تتوصل إليه في هذا الشأن ليس بسبب دينها – فقد تركته وراءها ظهريا – بل لأنها بذلت الأسباب التي تحقق لها ذلك، ولو بذلها غيرها لتحقق له مثل ما تحقق لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل لهذا الكون سننا ونواميس، من عمل بها وصل من خلالها إلى ما رُتّب عليها .
الرابع : أن من يقع عنده مثل هذا الإشكال فلأنه حصر نظره في فترة زمنية واحدة فيما يحل على هذه الدول، ونظر إلى كارثة واحدة، ولم ينظر إلى التاريخ البشري وما تتابع فيه من الآيات والنذر، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى ( ) . وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ( ) .
الخامس : أن العذاب إذا نزل على المسلمين فهو رحمة بهم، وتكفير لخطاياهم، وتذكير لهم لعلهم يرجعون إلى ربهم، فيعبدونه حق عبادته، قال الشيخ السعدي رحمه الله يعصونه فيدعوهم إلى بابه، ويجرمون فلا يحرمهم خيره وإحسانه، فإن تابوا إليه فهو حبيبهم، لأنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين،وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب؛ ليطهرهم من المعايب) ( ). وبين سبحانه وتعالى أن ما يبتلي به عباده المؤمنين إنما هو سبيل بشارة لهم، وسبب مغفرة ورحمة لهم، وصلاة عليهم، فقال عز من قائل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( ). وقال جل ثناؤه: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ). وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ).
المسألة الثالثة : متى يكون العذاب خاصا ، ومتى يكون عاما ؟! وإذا وقعت العقوبة شملت الصالح والطالح، والمحسن والمسيء، فما مصير الصالح ؟.
إن الله سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، والأمر الرشيد، حكمه العدل، وقوله الحق، حرم الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرما، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، حجة على الخلق، وشرع التوبة، وأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لئلا يتنزل العذاب على عامة الأمة، قال سبحانه وتعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ( )
قال ابن جرير الطبري رحمه الله وما كان ربك - يا محمد - ليهلك القرى التي أهلكها - التي قص عليك نبأها – ظلما، وأهلها مصلحون في أعمالهم غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم - مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم - ظلما، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم وركوبهم السيئات). ( )
فإذا انتهكت محارم الله، وعصيت أوامره، واستعلن بالفواحش؛ حلّ العذاب، ونزل النكال، وحاق بالمفسدين سوء أعمالهم، فيرسل الله عذابه ونقمته على المعاندين، كما قال تعالى مخبرا عن حال ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ( )، وقال جل ثناؤه في بيان خبر لوط مع قومه: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( ). فانظر كيف عمهم العذاب، وأنجى الله سبحانه وتعالى، بمنه وكرمه أولياءه وحزبه المفلحين، وسألت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها : هل ينزل العذاب وفي الأمة الصالحون؟ قائلة: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟. فأجابها الذي لا ينطق عن الهوى،قائلا: (نعم إذا كثر الخبث!!) ( )
وبين النبي أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنهم وإن هلكوا مهلكا واحدا، فإن الله يبعثهم على نياتهم، فقال رسول الله يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض؛ خسف بأولهم وآخرهم. قالت عائشة: يا رسول الله! وفيهم سواهم، ومن ليس منهم؟. قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم).( )
فيكون العذاب حينئذ عاما إذا كان الفساد عاما، وينجي الله المتقين، ويكون النكال خاصا إذا كان المنكر خاصا غير مستعلن، كما قال عز من قائل في خبر قارون: فخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ( ).
المسألة الرابعة : إذا كان الرسول بعث رحمة، فكيف يقول المسلم: إن الآيات التي يسلطها الله على الخلق تعّد عذابا لهم؟! فأين رحمة المسلم لغيره من البشر؟! .
من كمال رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب، فكانت رسالات الرسل تجمع بين الدلالة على الخير، والتحذير من الشر، ترغيبا وترهيبا، بشارة ونذارة، قال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا( ).
وكانت رسالتهم هداية للناس ورحمة، قال تعالى عن موسى عليه السلام -كما قال عن غيره-: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً ( ). وقال عز من قائل عن عيسى عليه السلام: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ( ).
ومع كونهم أرسلوا رحمة للعالمين، فكل رسول قال لقومه: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، فهذا نوح عليه السلام يقول كما أخبر الله عنه:يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( ) . وهذا شعيب يقول لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيط .( ) وكذلك هود خاف على قومه فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ). ودعا الخليل أباه إلى الله، وخوفه مما يعلم، فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا.( ) وهذا إمام الأنبياء والمرسلين يخاف عذاب ربه، إن هو عصاه، ويأمره ربه أن يقول لقومه - كما ذكر الله عنه-: قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( ). ويأمر قومه بالاستغفار، ويخبرهم أنهم إن تولوا عن طاعة ربهم فإنه يخاف عليهم العذاب الكبير، فقال عز من قائل: وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( ).
فكل الأنبياء – ما عدا الخليلين – عليهم السلام لما كُذّبوا دعوا على قومهم بالعذاب وبالاستئصال، فقال نوح عليه السلام، كما أخبر الله عنه: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا( ). وقال جلّ ثناؤه عن موسى عليه السلام :وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. ( )
وأخبر النبي أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل نبي دعوة مستجابة، وأن كل نبي تعجل دعوته، وأنه من رحمته بأمته ادخر دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة، فعن أنس عن النبي قال كل نبي سأل سؤلا، أو قال: لكل نبي دعوة قد دعا بها؛ فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ( ) وفي رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا). ( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومحمد وإبراهيم أفضل الرسل؛ فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود، وقد يتوب منهم من يتوب بعد ذلك، كما تاب من قريش من تاب، وأما حال إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل، فلم يسع في هلاك قومه لا بالدعاء، ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم، وقد قال تعالى:وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ( )....والخليلان هما أفضل الجميع، وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريقة غيرهما).( )
فنبينا محمد رحمة للعالمين من كل وجه، باعتبار ما حصل من الخير العام به، وما حصل للمؤمنين به من سعادة الدنيا والآخرة، وباعتبار أنه في نفسه رحمة، فمن قَبِلَها وإلا كان هو الظالم لنفسه، وباعتبار أنه قمع الكفار والمنافقين، فنقص شرهم، و عجزوا عما كانوا يفعلونه بدونه.( )
فالرسول رحمة للخلق في دعوته وفي سلمه وفي حربه، يقول ابن القيم رحمه الله وأما نبي الرحمة فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين؛ فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم، أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة، وأما الكفار: فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم هو وأمته فإنهم عجلوا به إلى النار، وأراحواه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة العذاب في الآخرة).( )
والعذاب والنكال الذي توعدت به الرسل أقوامهم لم يكن مجرد تهديد ووعيد؛ بل إذا تنكبت الأقوام عن الصراط، وعاندت المرسلين، واستكبرت على رب العالمين؛ فحينئذ يحق القول، وينزل بهم ما كان أنذرهم إياه رسولهم، كما قال تعالى: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.( )
وبين سبحانه وتعالى أن هذا العذاب الذي يصيب به أعداءه، إنما هو عذاب خزي لهم في الحياة الدنيا، وهو عذاب هوان لهم، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ). وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن هذا العذاب المهين مستمر لكل من استكبر وطغى، فقال جل ثناؤه:وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( )
والرسول لم يكن بدعا من الرسل، فكما خاف على قومه المعاصرين له، وأنذرهم وخوّفهم؛ فقد خوف اللاحقين من أمته، وحذرهم من المعاصي والذنوب عموما، وحذرهم من معاص معينة محددة بعينها، وأخبرهم بما يترتب عليها من العذاب العاجل،( ) فإخباره أمته، وتحذيره إياها لا يتعارض مع كونه أرسل رحمة للعالمين، فمن كمال رحمته إنذاره، ومن كمال رحمته أنه سأل ربه أن لا يهلك أمته بسنة بعامّة، ، حيث قال سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)( ). بل لما بلغ به الأذى من قومه ما بلغ، وجاءه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين، قال مقالته الرحيمة المشهورة بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا).( )
ومن واجبه إبلاغ أمته بما ينتظرها، إن هي خالفت الأوامر الربانية، ومن كمال رأفته ورحمته أن يبين لأمته أسباب العذاب الذي يوشك أن يقع بها .
وحَمَلَة رسالته يقتدون بهديه، ويستنون بسنته، فيبشرون بما بشر به من سعة رحمة الله، وعظيم مغفرته،وفرحه بتوبة عبده، وينذرون بما أنذر به من أسباب الهلاك المترتب على مقارفة الذنوب والمعاصي. ولو لم يفعلوا لكان ذلك خيانة منهم لأمتهم، ومعصية لرسولهم .
فإذا وقع ما حذر منه الرسول ، فهذا مصداق نبوته ، ثم إذا قام العلماء بواجب التنبيه والتذكير فلا يتجه إليهم اللوم والتعنيف بسبب تحذيرهم وإنذارهم، ولا يعدّ عملهم هذا من باب الشماتة بمن وقعت عليهم هذه الأحداث، كما لا يعدّ قولهم هذا تزكية لأنفسهم ومجتمعهم، بل الجميع عرضة للخطأ، وعرضة لنزول العذاب إذا قارفوا أسبابه، وتعرضوا لما يسخط الجبار، سبحانه وتعالى .
المسألة الخامسة: ما الفرق بين الابتلاء للمؤمنين والعذاب للمعاندين؟.
ينبغي أن يُعلمَ أن الدنيا دار كبد وبلاء، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( ). وقال سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً( ). وقال سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( ) وأخرج أبو جعفر ابن جرير الطبري بسنده عن عبد الله بن عمر عن النبي أنه تلا هذه الآية: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً قال أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله).( ) فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه؛ وابتلاهم بالحسنات والسيئات، بالخير والشر؛ لينظر أيهم أحسن عملا، فمن أحسن فله الحسنى وزيادة، ومن أساء فله السوء بما قدمت يداه، وقد يبتلي الله الصالحين بالبلاء؛ رفعة لدرجاتهم، وتمحيصا لسيئاتهم، وليقتدي فيهم غيرهم، بالصبر والشكر على أقدار الله، قال تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( ). وأخرج الحاكم في المستدرك عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: سألت رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قالالنبيون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، إن كان صلب الدين اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة).( )
وبوّب البخاري رحمه الله في صحيحه بقوله: باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول، وأورد فيه حديث عبد الله قال: دخلت على رسول الله - وهو يوعك - فقلت يا رسول الله! إنك لتوعك وعكا شديدا؟! قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك أجرين، قال: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى - شوكة فما فوقها - إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها).( )
قال ابن حجر رحمه الله: ( ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد ، وإلحاق الأولياء بهم لقربهم منهم، وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسر فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضوعف حد الحُرِّ على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين: يَانِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ.( ) قال ابن الجوزي: في الحديث دلالة على أن القوي يحمّل ما حمل، والضعيف يرفق به، إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلي هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه؛ فيسلم ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به؛ لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم). ( ) وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله متى يعرف العبد أن هذا الابتلاء امتحان أو عذاب ؟ إذا ابتلى أحد بمرض أو بلاء سيء في النفس أو المال , فكيف يعرف أن ذلك الابتلاء امتحان أو غضب من عند الله ؟!.
فأجاب: الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، وبالشدة والرخاء, وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم، وإعلاء ذكرهم، ومضاعفة حسناتهم كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصلحاء من عباد الله, كما قال النبي : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)( ) , وتارة يفعل ذلك سبحانه بسبب المعاصي و الذنوب, فتكون العقوبة معجلة، كما قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ).فالغالب على الإنسان التقصير، وعدم القيام بالواجب، فما أصابه فهو بسبب ذنوبه وتقصيره بأمر الله, فإذا ابتلي أحد من عباد الله الصالحين بشيء من الأمراض أو نحوها؛ فإن هذا يكون من جنس ابتلاء الأنبياء والرسل، رفعا في الدرجات، وتعظيما للأجور، وليكون قدوة لغيره في الصبر والاحتساب، فالحاصل أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات، وإعظام الأجور، كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار, وقد يكون لتكفير السيئات كما في قوله تعالى : مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ( ). وقول النبي ما أصاب المسلم من هم و لا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها )( )، وقوله : (من يرد الله به خيرا يصب به )( ). وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي، و عدم المبادرة للتوبة كما في الحديث عنه أنه قال : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا , وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) خرجه الترمذي وحسنه). ( )
ونخلص من هذه المسألة إلى الحقائق التالية:-
1- أن الحياة الدنيا دار كبد وعناء، وليست دار نعيم وهناء خالص لا شائبة فيه.
2- أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه فابتلاهم بالحسنات والسيئات لينظر أيهم أحسن عملا .
3- أن الله تعالى - وله الحكمة البالغة - يبتلي المؤمنين ؛ رفعة للدرجات، وتعظيما للأجور.
4- أن الله جل ثناؤه يبتلي عباده؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليتميز المؤمن من المنافق، قال تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. ( )
5- أن ما يقدره الله سبحانه وتعالى - على العباد والبلاد - فله فيه جل ثناؤه الحكمة البالغة، والأمر الرشيد، قال تعالى:وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ( )
6- أن الله سبحانه وتعالى - وهو الغني الحميد - أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأقام الحجة على الخلق، فمن تنكب عن الصراط ، وخالف المنهج، فنزل به ما توعّد به؛ فقد أحقّ العذاب على نفسه وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ.( )
7- أنه ما من مصيبة تنزل في الناس أو تحل في الديار والبلاد إلا وهي مقدرة مكتوبة في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ .( )
8- أنه ما من وصب ولا نصب يصيب العبد أو بلاء عام يصيب الأمة إلا بسبب ما كسبته أيديهم، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ).وبعد بيان حقيقة العذاب الأدنى يحسن بنا أن نقف على الآية الكريمة التي كانت سببا في بحث هذا الموضوع، وما دلت عليه، وننظر في نظائرها ودلالاتها، فنسأل الله الإعانة والتوفيق