المنهج النبوي في مواجهة التحديات العقائدية للشباب
والاستفادة منه في العصر الحاضر
بحث مقدم للمؤتمر العالمي الثامن للندوة العالمية للشباب الإسلامي
الشباب المسلم والتحديات المعاصرة
إعـــداد
الدكتور : سليمان بن قاسم العيد
1418هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تــــقديم
الحمد لله القائل {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}( ) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : -
فإن الشباب في جميع الأطوار وفي أي قطر من الأقطار هم عماد حضارة الأمم ، وسر نهضتها ؛ لأنهم في سن الهمم المتوثبة والجهود المبذولة ، سن البذل والعطاء ، سن التضحية والفداء . وشباب الإسلام على الأخص ، هم عماد الحضارة الحقيقية التي انبثقت من مكة المكرمة ، تلك الحضارة التي أخرجت الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
ولقد أدرك أعداء الإسلام هذا الأثر لشباب الأمة الإسلامية ، وأدركوا معه السبب الذين يبلغون به هذا الأثر فوضعوا مخططاتهم ، وبذلوا مجهوداتهم للحيلولة دون الشباب وتلك الأسباب ، فأصبح شباب الإسلام يواجه تحديات متنوعة ، تهدف إلى إضعاف إيمانهم وإذابة شخصياتهم .
ومن هذه التحديات التي تواجه الشباب التحدي العقائدي ، لذا فقد رأيت في هذا البحث الوصول إلى كيفية مواجهة هذا التحدي العقائدي للشباب ، وذلك من خلال دراسة منهج النبي ذ مع شباب الصحابة (رضي الله عنهم) في التربية الإيمانية لهم ، ابتداء من تعليمهم قضايا الإيمان الأساسية ، ومروراً بمتابعة هذا الإيمان وتقويم اعوجاجه ، وانتهاءً بوضع توجيهات لتحصين هذا الإيمان مما ينقصه ويفسده ، وأسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لمبحث الأول
غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الشباب
المطلب الأول : تعليم الإيمان منذ الصغر
إن من الأمور المهمة في مواجهة التحديات العقائدية للشباب أن يكون الشباب على إدراك تام للعقيدة الصحيحة ، وذلك من التعلم المسبق ، وخاصة ما كان منه في مرحلة الصغر ، لما في التعلم في هذه المرحلة من صفة الثبات ، فعن علقمة قال : (( أما تعلمت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة ))( ) .
وأنشد بعضهم :
أراني نسيت ما تعلمت في الـكبر ولست بناس ما تعلمت في الصغر
وما العلم إلا بالتعلم في الصـــــبا وما الحلم إلا بالتحلم في الكـــــبر
وما العلم بعد الشيب إلا تعسف إذا كل عزم المرء والسمع والبصـر
ولو فلق القلب المعلم في الصــــبا لأبصر فيه العلم كالنقش في الحجر( )
ولما كان الحال كذلك من أهمية العلم في الصغر ، فقد اهتم رسول الله ص بتعليم صغار الصحابة (رضي الله عنهم) أمور العقيدة، ومما يدل على ذلك ما ورد عن جندب بن عبد الله قال: ((كنا مع النبي ص ونحن فتيان حزاورة( )، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا ))( ) .
يتضح لنا من هذا الحديث أن جندب بن عبد الله (رضي الله عنه) ومن معه كانوا فتياناً عند النبي ص فتعلموا الإيمان قبل أن يتعلموا القرآن ، وهذا مما يدل على المبادرة بتعليم الإيمان للنشء قبل تعلم القرآن ، وتعليم الإيمان يقتضي التعريف بالله سبحانه وتعالى، وأحقيته بالعبادة دون من سواه، وما له من صفات الجلال والكمال والعظمة، وكذلك التعريف برسوله ص ووجوب الإيمان به، وماله من حقوق على أمته، ونحو ذلك مما يتلق بأمور الإيمان و يتناسب مع حال الناشئ، وهذا مما يفيد الناشئ قبل تعلم القرآن، في تعظيم القرآن والازدياد به إيماناً، كما يقول جندب (رضي الله عنه) : ((ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً)) .
ومما كان يسلكه رسول الله ص في تعليم الصغار الإيمان حرصه على تعليم الحسن وغيره بعض الأدعية التي تتضمن بعض جوانب الإيمان كدعاء القنوت ، كما يقول الحسن بن علي (رضي الله عنهما): علمني رسول الله ص كلمات أقولهن في الوتر (( اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت))( ) .
وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كان رسول الله ص يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن.( )
وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كان رسول الله ص يعلمنا هذا الدعاء كما يعلمنا السورة من القرآن( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك
من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات))( ).
وعن عبد الله بن عمرو قال: كان رسول الله ص يعلمنا يقول: (( اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شيء، وإله كل شيء، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك، ورسولك، والملائكة يشهدون ، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما، أو أجره على مسلم)) ( ) .
ولو تأملنا في هذه الوقفات التعليمية من رسول الله ص لوجدنا أنها تشتمل على قضيا كثيرة من أمور العقيدة ، كتوحيد الله سبحانه وتعالى ، وتعظيمه وإجلاله، والثناء عليه، وللجوء إليه بطلب الهداية والعافية والبركة، والاستعاذة به من الفتن ، ومن عذاب جهنم ، وعذاب القبر ، وفتنة المسيح الدجال ، وفتنة المحيا والممات، والاستعاذة به من الشيطان وشركه . وهذه الأدعية ونحوها التي يتعلما الصغير هي مادة نافعة بإذن الله سبحانه وتعالى في تحصين الإيمان ، ومواجهة التحديات التي توجه الشاب في عقيدته .
كما أن هذه الأدعية التي علمها رسول الله ص لأولئك الصغار من الصحابة (رضي الله عنهم) تتصف بصفة الأداء الدوري، كتعليم الحسن دعاء القنوت، وتعليم ابن عباس دعاء التشهد، وتعليم عبدالله بن عمرو دعاء النوم( )، والاستمرار بهذه الأدعية يجعل العبد مرتبطاً بربه، ويذكره بهذه الأمور المهمة من أمور العقيدة.
ولنا أن نتصور مدى حرص رسول الله ص على تعليم هؤلاء الصغار ويتضح ذلك من عدة أمور :-
1- قول جندب بن عبدالله (رضي الله عنه) : فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن.
2- قول ابن عباس (رضي الله عنهما) : يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن.
3- قول ابن عباس أيضاً : يعلمنا هذا الدعاء كما يعلمنا السورة من القرآن .
الاستفادة من المنهج في العصر الحاضر
لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح بها أولها ، فلن يصلح شباب هذا العصر ويحمي عقائدهم من التحديات التي تواجههم بشتى أنواعها وتنوع صنوفها إلا السير على منهج رسول الله ص في ذلك ويتمثل بالنقاط :-
1- إن الصغير في هذا العصر يبدأ سنه التعليمي في السنة السادسة من عمره، وهي السنة التي في الغالب يبدأ معها تعلمه للقرآن، وغيره- إلا من اجتهد في تعليم ابنه قبل ذلك- فهنا يحسن بالآباء تعليم أبنائهم شيئاً من أمور العقيدة قبل هذا السن الذي يبدأ معه في تعلم القرآن الكريم، وذلك من أجل أن يعرف قيمة هذا القرآن ويزداد به إيمانه، وإذا علم عظمة الله سبحانه وتعالى قبل ذلك، وأن هذا القرآن هو كلامه، الذي لا يشبهه كلام أحد من البشر، ولاأحد يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن من الجن والإنس ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. ومن الأمور التي يمكن أن تعلم للصغير على سبيل المثال: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ من الذي خلقك وخلق الناس أجمعين؟ من الذي يشفيك إذا مرضت؟ القرآن كلام من؟ لماذا يذهب الناس إلى المساجد؟... ونحو ذلك.
2- الحرص على تعليم الصغار بعض السور القصيرة من القرآن الكريم، كسورة الفاتحة، كما علمها رسول الله ص أبا سعيد بن المعلى -وكان صغيراً- حيث يقول أبو سعيد: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله ص فلم أجبه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي فقال( ألم يقل الله ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ثم قال لي لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)) ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل( لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته))( ) .
وكذلك سور الإخلاص والمعوذتين ونحوها، وتنبيههم على ما فيها من الجوانب الإيمانية، وتوجيههم لقراءتها في مناسبات معينة. فقد أمر رسول الله ص ابن عابس (رضي الله عنه) أن يتعوذ بسورتي الفلق والناس، حيث قال : ((يا ابن عابس ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون قلت بلى يا رسول الله قال قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس))( ) .
3- الحرص على تعليم الصغار أنواع من الأدعية تشتمل على أمور العقيدة، والتأكيد على حفظهم لهذه الأدعية، والمداومة على ذكرها وتردادها.
المطلب الثاني : التوضيح والبيان
لقد كان كلام رسول الله ص في تعليمه للناس بيناً واضحاً، كما تقول عائشة (رضي الله عنها) : (( كان كلام رسول الله ص كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه))( ) . ومع هذا فقد رسول الله ص يسلك في تعليمه للشباب وغيرهم أمور الأيمان وسائل التوضيح والبيان، ومن ذلك على سبيل المثال:
(ا) ضرب الأمثال
ضرب الأمثال أسلوب من أساليب الإيضاح والبيان ، إن لم يكن أقواها في إبراز الحقائق المعقولة ، في صورة الأمر المحسوس . والغرض من ضرب الأمثال تشيبه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيصير الحس مطابقاً للعقل ، وذلك هو النهاية في الإيضاح. وضرب المثل هو حالة تشبيه تحدث في النفس حالة التفات بارعة ، يلتفت بها المرء من الكلام الجديد إلى صورة المثل المأنوس( ) .
وفي أهمية ضرب الأمثال لتوضيح الأقوال يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : (( الأمثال مصابيح الأقوال ))( ) .
ومن الأمور المهمة في هذه المسألة أن يكون المُمَثل به أمراً معروفاً ومشهوراً لدى الممثل لهم، لتتم الفائدة، كما كان النبي ص يمثل لأصحابه بالنخلة والتمر ، والبعير ، والشوك . ومن أمثلته ص في توضيح الإيمان ما رواه الشباب أنفسهم ، فقد مثل بالزرع كما في حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال قال رسول الله ص (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة، صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء))( ) .
ومثل بالشاة كما في حديث ابن عمر عن النبي ص (قال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة( ) بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة))( ) .
ومثل بالشوك كما يرويه أبو هريرة وأبو سعيد الخدري (رضي الله عنهما) فيقول : ((...وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم ...))( ) .
ومثل بالأترجة ، والريحانة ، والتمرة ، والحنظلة، كما في حديث أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) عن النبي ص قال : (( مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة ، طعمها طيب وريحها طيب ، والذي لا يقرأ القرآن ، كمثل الريحانة ، ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن ، كمثل الحنظلة ، طعمها مر ولا ريح لها ))( ) .
ومن جوانب الحكمة النبوية في التمثيل ما يلي :-
1- الأمور الحسية الممثل بها من واقع المجتمع الذي كان يعيشه الصحابة في ذلك الوقت .
2- بيان الفارق بين الممثل والممثل به، كما في تمثيله ص كلاليب جهنم بشوك السعدان .
3- التأكد من معرفة الممثل لهم بالمثل المضروب، كما سأل رسول الله ص الصحابة قائلاً : هل تعرفون شوك السعدان؟
(ب) استخدام وسائل الإيضاح
إن مما يساعد في إدراك الأمور المجردة لقضايا الإيمان توضيحها ببعض الوسائل المعينة، كالرسوم ونحوها، ولم يكن رسول الله ص يغفل هذا الجانب لتوضيح بعض كقضايا الإيمان، ومن ذلك ما ورد في حديث عبدالله بن مسعود(رضي الله عنه) قال:خط النبي ص خطاً مربعاً وخط خطاً في الوسط، خارجا منه، وخط خططاً صغاراً، إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال( هذا الإنسان وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا، نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا))( ) .
وقد مثل ابن حجر في كتابه الفتح هذه الخطوط على النحو التالي :
وفي ثمثيل آخر يروي ابن مسعود أيضاً فيقول : خط رسول الله ص خطاً بيده ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيما)) . قال ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: ((هذه السبل، وليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ {وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} ))( ) .
ويمكن تمثيل هذا الخط على النحو التالي :
وهذه الخطوط التي وضح بها رسول الله ص بعض قضايا العقيدة أمور سهلة ولكنها ذات توضيح قوي لما تمثله، وذلك لترافق المشاهد المحسوس، مع المنطوق المسموع.
(جـ) القصص
إن مما يزيد قضايا العقيدة وضوحاً، عرضها بشكل قصصي، يجعل السامع يتصور مشاهدها، ويتخيل أحداثها، وكأنها رأي العين، فضلاً عمَّا في الأسلوب القصصي من جذب انتباه -وخاصة للشباب- فكان النبي ص كثيراً ما يعرض أمور العقيدة بشكل قصصي، وخاصة الغيبيات، كنعيم الجنة وأحوال أهلها (نسأل الله من فضله) وعذاب النار وأحوال أهلها (نعوذ بالله من سخطه) ، وذكر المسيح الدجال ... ونحو ذلك .
ومن ذلك ما قصه رسول الله ص من حال أدنى أهل الجنة منزلة، كما في حديث عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) أن رسول الله ص قال( آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها، التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: أي رب، أدنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم، لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، قال: بلى يا رب، هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليها، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك( )، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها، قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال هكذا ضحك رســـــول الله ص فقالوا مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر))( ) .
ومن تتبع أحداث هذه القصة تجعل السامع يدرك أموراً كثيرة من أمور العقيدة، كسعة رحمة الله سبحانه وتعالى، ومخاطبته لهم يوم القيامة من دون واسطة، وإثبات الضحك له سبحانه كما يليق بجلاله، إضافة إلى إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة التي ورد التصريح بها في رواية أخرى لهذه القصة( ).
(د) إجابة التساؤلات
وتتم عملية توضيح أمور العقيدة للشباب بعد ضرب الأمثال، واستخدام التخطيط، وعرضه بالقصص، بإجابة الاستفسارات الواردة منهم، وتوضيح المشكل عليهم، فقد كان النبي ص يتيح للشباب السؤال في هذا المجال، بل ويشجعهم عليهم، ويجيبهم عنه، ويزيد أحياناً في الإجابة على مطلوب السائل ، لمزيد الإيضاح، ومن ذلك على سبيل المثال سؤال الشاب عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: سألت رسول الله ص أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني))( ) .
ويجيب رسول الله ص على سؤال الشفاعة كما في حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قيل يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ يوم القيامة قال رسول الله ص ((لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه))( ) .
ومن منهج إجابة التساؤلات نلحظ مايلي :-
1- استعداد الرسول ص لإجابة تساؤلا الشباب مهما كثرت .
2- تشجيع الشباب على السؤال والاستزادة من العلم .
الاستفادة من المنهج في العصر الحاضر
إن الشاب المسلم في العصر الحاضر بحاجة ماسة إلى التوضيح والبيان لأمور العقيدة، وذلك يمكن استفادته من منهج رسول الله ص على النحو التالي :-
1- من المهم جداً الاستعانة بضرب الأمثال لتوضيح قضايا العقيدة للشباب في العصر الحاضر، ولكن عند طرح هذه النصوص التي فيها ضرب الأمثال لابد من توضيح هذه الأمثال للشباب، لأنهم في الغالب لا يعرفون شوك السعدان مثلاً، أو الشاة العائر أو الأترجة أو الحنظلة، و لايكفي في ذلك مجرد التعريف اللفظي لهم، بل تعريفهم بها جيداً لتتم الفائدة من ضرب المثل، وذلك بمشاهدتهم إياها إن أمكن، أو إعادة ضرب المثل بما هو معروف لديهم، حتى يستقر المعنى في أذهانهم.
2- الاستعانة بالرسوم التخطيطية والصور التوضيحية المناسبة، لبيان بعض قضايا العقيدة، مع الاستعانة ببعض قواعد الرسم والنظريات الرياضية التي تزيد الأمر وضوحاً، فعلى سبيل المثال يمكن توضيح العلاقة بين : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان . بالرسم التخطيطي المسمى (شكل فن) وهو موضوع يتعلمه الشاب من الصف الأول متوسط، وذلك على النحو التالي:
من الشكل نرى أن كل مؤمن مسلم وكل محسن مؤمن، وليس العكس
كما يمكن تمثيل افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كما أخبر بذلك رسول الله ص
بالشكل الآتي :
الإطار المجاور يحوي ثلاثاً وسبعين مربعاً تمثل الثلاث وسبعين فرقة التي ذكرها رسول الله ص ، علماً بأنه لن ينجو من هذه الثلاث والسبعين إلا فرقة واحدة تمثلها البقعة البيضاء في وسط المربع .
إلى غير ذلك من الأشكال التخطيطية والرسوم التوضيحية التي تقرب بعض المعاني المجردة في قضايا العقيدة، أضف إلى ذلك وجود الحاسب الآلي الذي يسهل إخراج مثل هذه الأشكال .
3- الاهتمام بالقصص التي تحكي بعض أمور العقيدة، وهي القصص التي وردت في كتاب الله سبحانه وتعالى أو في سنة نبيه محمد ص، وعدم اللجوء إلى تأليف شيء في ذلك، لأن هذه القصص تحكي أموراً غيبية، وأموراً تشريعية لا يمكن لنا أن نأتي بمثلها، بل يكون دورنا في هذا الجانب تبسيط مفاهيمها للشباب، وعرضها بالعرض المناسب الذي يشد السامع.
4- وأما ما يتعلق بإجابة التساؤلات فلا بد من الاهتمام باستفسارات الشباب، وتساؤلاتهم، وأكثر من ذلك لابد من تشجيعهم على السؤال والاستفهام عمَّا يشكل عليهم في مسائل العقيدة، ومن الأمور التي يجب أن ننبه إليها في هذا الجانب هو أنه قد يصعب على المربي أو الداعية أن يجيب على كل ما يرد من الشباب من تساؤلات، ففي هذه الحال تتم إحالتهم إلى أهل العلم، أو الكتب النافعة التي يجدون فيها بغيتهم، فهي ولله الحمد متوفرة في العصر الحاضر لتوفر المطابع وسهولة النشر.
المطلب الثالث : إثارة الانتباه واغتنام الفرص
من منهج رسول الله ص في غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الشباب إثارة الانتباه لما يريد أن يعلمهم إياه ، ويعرفهم به، وذلك يجعل الشاب مستعداً لما يلقى إليه، بتوجيه حواسه وتركيز ذهنه، إضافة إلى ذلك فإن النبي ص يغتنم الفرصة المناسبة لهذا التعليم، والمواقف في هذا كثيرة ، فمنها ما حصل لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) حيث يقول : (( بينما أنا رديف النبي ص ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: يا معاذ! قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم))( ) .
تلقى الشاب معاذ بن جبل (رضي الله عنه) درساً بليغاً في العقيدة، وقد تأثر به تأثراً شديداً، مما جعله لا يكتفي برواية ما سمعه من رسول الله ص من كلام مقصود، بل يروي تفاصيل حاله مع النبي ص ، ومن تلك المؤثرات في هذا الموقف ما يلي :-
1- تكرار النداء (( يا معاذ بن جبل )) ... (( يا معاذ بن جبل )) ... (( يا معاذ بن جبل )) ...مع كون معاذ بن جبل قريباً منه، مما جعله شديد الاتنباه ، متهيئاً للسماع .
2- السكوت بعد النداء، وذلك يدعو إلى التفكير في أهمية الأمر .
3- ابتداء الدرس بإلقاء سؤال : هل تدري ما حق الله على عباده؟
كما كان رسول الله ص لا يدع فرصة تمر على الشباب دون أن يغتنمها ويجعل منها درساً بليغاً في العقيدة، أو موعظة مؤثرة كثيراً ما تدمع منها العيون، وتوجل منها القلوب، والتوجيه المناسب لذه الحادثة أو هذا الموقف ، أو هذه الحالة يجعل الشباب يأخذوا منه درساً لا ينسى، وذلك لارتباطه بهذا الواقع المشاهد ، أو صلته بمناسبة لابسها الناس وعايشوها، وهنا يرسخ التعليم في الذهن ويثبت في القلب ولا يحتاج إلى تطويل وتكرار.
ومن أمثلة اغتنام الفرص ما رواه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد( ) ، فأتانا النبي ص فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة( )، فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ((ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة)) فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: ((أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة)) ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى } الآية( ) .
الاستفادة من المنهج في العصر الحاضر
إن ما فعله رسول الله ص مع معاذ بن جبل (رضي الله عنه) من أسلوب لإثارة الانتباه يمكن تطبيقه في كل عصر، فهذه الطرقة نفسها يمكن أن نسلكها مع الشباب في العصر الحاضر، لشد انتباههم، أضف إلى ذلك أن أسلوب السكت في وقت ينتظر فيه السامع الحديث مما يشد الانتباه ويجمع الذهن.
وأما ما يتعلق في اغتنام الفرص فكم هي الفرص التي تمر على الشباب في العصر الحاضر التي تكون مناسبة لفرس العقيدة الصحيحة في نفوسهم، ومن ذلك على سبيل المثال:
عند ما يشاهد الشاب في هذا العصر صور النجوم والكواكب وبعض المجرات التي تلتقطها الأقمار الصناعية، أو يطلع على بعض دقائق تركيب الكائنات النباتية أو الحيوانية، يكون ذلك مناسباً لبيان قدرة الخالق سبحانه وتعالى وعظمته .
عند ما يسافر الشاب في الطائرة ويكون فوق السحاب يلفت نظره إلى شكل السحاب الذي يبدو وكأنه جبال على سطح الأرض، وقد وصف المولى سبحانه السحاب بالجبال ، كما في قوله سبحانه { وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ}( ) ، وإن هذا الواقع المشاهد وأمثاله، مما يزيد الشاب إيماناً ويقيناً.
ومن المناسب أيضاً في تقرير مسألة مهمة من مسائل العقيدة ، لفت أنظار الشباب إلى الشمس في يوم صحو ، أو إلى القمر في ليلة البدر، ثم يقال لهم إن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة ، كما ترون هذه الشمس أو هذا القمر.
المبحث الثاني
المتابعة وتقويم الأخطاء
المطلب الأول : التعاهد بالوصية
إضافة لما كان يسلكه الرسول ص في غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الشباب من التعليم في الصغر ثم التوضيح والبيان وإثارة الانتباه واغتنام الفرص، فقد كان ص يحرص على متابعة هذا الغرس ، وتعاهد الإيمان في القلوب، ببذل الوصايا لهم ، ومن وصاياه ص في هذا الجانب ما يلي :-
احفظ الله يحفظك
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كنت خلف رسول الله ص يوماً فقال: ((يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))( ) .
فهذه وصية عظيمة من رسول الله ص لابن عمه الغلام ابن عباس، وصية يتكفل الله سبحانه وتعالى لمن عمل بها أن يحفظه في أموره كلها ، ومن جملتها أعز ما يملكه الإنسان إيمانه بربه ، فيحفظه الله سبحانه وتعالى من الشبهات المضلة ، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان( ).
اتق الله حيثما كنت
ومن الوصايا الإيمانية وصيته ص لأبي ذر (رضي الله عنه) قال: قال لي رسول الله ص (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))( ).
وهذه الوصية نفسها أوصى بها الشاب معاذ بن جبل (رضي الله عنه) حيث قال : يا رسول الله! أوصني، قال: (( اتق الله حيثما كنت -أو أينما كنت- قال: زدني قال: أتبع السيئة الحسنة تمحها، قال: زدني، قال: خالق الناس بخلق حسن))( ) .
استحيوا من الله حق الحيا
ويروي عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) وصية أخرى من الوصايا الإيمانية حيث يقول : قال رسول الله ص (استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا يا رسول الله! إنا نستحيي والحمد لله، قال، ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))( ) .
الاستفادة من المنهج في العصر الحاضر
لاشك أن الشباب في العصر الحاضر بحاجة ماسة إلى تعاهد إيمانه بالوصايا النافعة، لما يواجهونه في حياتهم من التحديات وكثرة المغريات، ومن نعمة الله سبحانه وتعالى علينا أن بقيت وصايا رسول الله ص محفوظة إلى هذا الزمان،وستبقى إلى أن يشاء الله، فعلينا أن ندرك هذه الوصايا جيداً ونعيها ونتعاهد بها شبابنا .
فهذه الوصايا والمذكورة وغيرها من وصايا رسول الله ص في مجال العقيدة فيها مادة غنية لتعاهد إيمان الشباب ، فعلى سبيل المثال الوصية (احفظ الله يحفظك) مهمة للناس عامة وللشباب خاصة لأنهم معرضون أكثر من الكبار للتغير والانحراف، أضف إلى هذه الطبيعة ما استحدث في هذا العصر من وسائل الإغراء الموجهة للشباب خاصة . ومع هذا أيضاً فإنه يجب على أولياء أمور الشباب أن يكونوا عوناً لهؤلاء الشباب حتى يتمكنوا من تنفيذ هذه الوصية، وذلك يعني أن لا نتيح لهم وسائل المعصية ثم نطالبهم بتنفيذ هذه الوصية، بل لابد أن نبعدهم ونبعد عنهم كل ما هو سبب لمخالفة هذه الوصية الجليلة.
والوصية (اتق الله حيثما كنت) توقظ فيهم مراقبة الله سبحانه وتعالى، وخشيته، في كل زمان ومكان، فالشاب معرض أكثر من غيره للوقوع في المعصية، لقوة دافع الشهوة عنده، فإذا ضعفت نفسه وزلت به قدمه، فإنه يجد في وصية رسول الله ص ما يمحو ذنبه ويريح قلبه.
والوصية (استحيوا من الله حق الحياء) توقظ في شبابنا مراقبة الله سبحانه وتعالى، والاستحياء منه، بحفظ الرأس وما وعى، ففيه السمع والبصر ولا تفكير والشم والذوق، فكل هذه الحواس معرضة لعمل الخير والشر . وفي هذه الوصية أيضاً إرشاد لحفظ البطن وما حوى، فلا بد من حفظه من المطعم الحرام والمشرب الحرام ... وفيها أيضاً حث للشباب على تذكر الموت، لأن الشباب عادة تطول عندهم الآمال ويغفلون عن هذه النهاية الحتمية، وخاصة مع ازدياد نعيم الحياة، وتوفر الملذات .
كل ذلك على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فالوصايا النبوية للشباب في مجال العقيدة كثيرة لا يتسع المقام لعرض أكثر من ذلك، فعلى الدعاة والقائمين على تربية الشباب في العصر الحاضر تتبع مثل هذه الوصايا وتعاهد الشباب بها، حفظاً لإيمانهم ورعاية لأخلاقهم.
المطلب الثاني : امتحان إيمان الشباب
قال تعالى {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}( ) . يقول سيد قطب حول هذه الآية : إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكليف، وأمانة ذات أعباء ، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، ولا يكفي أن يقول الناس : آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها، صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم ، كما تفتن النار الذهب، لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة، العالقة به . إن الإيمان أمانة في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص .
ولما كانت هذه حقيقة الإيمان، وهذه حال المؤمن، كان الرسول ص حريصاً على أن يبلغ الشباب حقيقة الإيمان،لتكون لهم القدرة على حمل الأمانة، والقيام بالتكاليف، والثبات عند الفتن، فكان يمتحن ما عندهم من الإيمان ومدى رسوخهم فيه، وبهذا يتسنى له إكمال نقصه، وإصلاح خلله، وتفسير غامضة، ومن مواقفه (عليه الصلاة والسلام) في امتحان الشباب ما يلي:-
عن خباب بن الأرت (رضي الله عنه) قال: شكونا إلى رسول الله ص وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال( كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالميشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))( ) .
في هذا الحديث امتحان لصبر الشاب خباب بن الأرت ومن معه من المؤمنين، وخاصة هم المؤمنون الأوائل، الذي حملوا عبء الدعوة في مهدها، فإن هذه المرحلة من الدعوة بحاجة إلى رجال علىجانب كبير من الصبر والثبات وتحمل الأذى في سبيل الله.
وعن عبدالله بن عمرو قال: قال لي رسول الله ص (كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟ قال: قلت يا رسول الله! كيف ذلك؟ قال: إذا مرجت عهودهم، وأماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك يونس بين أصابعه يصف ذاك- قال: قلت ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك، وإياك وعوامهم))( ) .
في هذا الحديث امتحان لإيمان الشاب عبدالله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) لمعرفة ماذا سيفعل في حال ظهور الفتن واختلاط الأمور .
ومن مواقف امتحان الشباب حديث معاذ بن جبل (رضي الله عنه) المذكور سابقاً، وذلك عندما سأله رسول الله ص : هل تدري ما حق الله على عباده؟ وقال أيضاً هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟( ) .
وهذه المواقف من امتحان إيمان الشباب تفيد أموراً منها :-
1- معرفة قدرة الشباب على تحمل التكاليف الإيمانية .
2- معرفة ماعندهم من النقص في فهم بعض القضايا الإيمانية .
3- توجيههم إلى ما يجب فعله في حال الفتن .
الاستفادة من المنهج في العصر الحاضر
إن عملية امتحان الإيمان مهمة لشباب هذا العصر ، فعلى سبيل المثال عندما يراد بعث الشباب إلى بلاد غير إسلامية تكثر فيها الفتن ويخشى على الشاب في دينه، يتم امتحان إيمانه قبل بعثه، لمعرفة مدى ثباته في الإيمان، وقدرته على مواجهة التحديات التي يحتمل أن يتعرض لها في سفره، مع التركيز على بعض الشبه التي تورد على الشباب المسلم عادة في هذه البلاد أو تلك، ويتم معرفة هذه الشبه ونحوها من التحديات من الشباب الذين واجهوا مثل هذه التحديات في وقت سابق.
كذلك مما يستفاد من هذا المنهج في العصر الحاضر امتحان ما عندهم من العلم بقضية من قضايا الإيمان أولاً عندما يراد إعطائهم درس فيها، كما فعل رسول الله ص مع الشاب معاذ بن جبل (رضي الله عنه) . وكذلك امتحانهم بعد إعطاء الدرس للتأكد من فهمهم له فهماً صحيحاً.
ومن ذلك أيضاً اختبار أحوالهم عند الفتن المتوقعة في المستقبل، كأن يقال للشاب على سبيل المثال : كيف تصنع إذا أصبحت محطات التلفاز في منزلك كمحطات الإذاعة؟ ومن خلال إجابته على هذا السؤال يمكن توجيهه التوجيه المناسب .
كذلك يمكن الاستفادة من المنهج النبوي في امتحان الشباب لامتحان قوة الإيمان ومدى رسوخهم فيه وذلك عندما يراد تكليفهم بمهمة أو وظيفة تتطلب ذلك، ومن ذلك على سبيل المثال عندما يكون أميناً على خزائن الأموال، أو في موضع يتعرض فيه لفتنة النساء، أو فتنة المال كأن تعرض عليه الرشاوى المغرية، فإذا يكن لديه من قوة الإيمان بالله عز وجل ما يحميه من السقوط كان من ولاه سبباً في القضاء عليه في فتنته في دينه.
المطلب الثالث : تقويم إيمان الشباب
وإذا كانت مرحلة إيمان الشباب مرحلة مهمة لمعرفة ما يوجد من الخلل والنقص عند الشباب في هذا الجانب، فإن الأمر لا يتوقف عند هذا بل بأتي مرحلة التقويم لذلك الخلل ، فقد كان النبي ص لا يغفل عن سلامة عقيدة شباب أمته وقوة إيمانهم، فعندما يدرك الخطأ يبادر في إصلاحه ، ويسد خلله ، ويكمل نقصه، حتى ينشأ الجيل قوي الإيمان ثابت الجنان، وكان أسلوب النبي ص في تقويمه للأخطاء أسلوباً حكيماً، كيف لا؟! وقد أمره ربه سبحانه وتعالى بقوله {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة الموعظة الحسنة} والشباب بخاصة إلى أسلوب حكيم في مواجهة أخطائهم، ومن الأسلوب الحكيم للنبي ص في تقويم الأخطاء في الإيمان ما يلي :-
1- التعليل وإيجاد البديل
عن عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) قال : ((كنا نصلي خلف النبي ص فنقول : السلام على الله. فقال النبي ص : إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله))( ) .
من الملاحظ في هذه الرواية أن النبي ص لما أدرك الخطأ لم يسكت عنه، بل أنكره، ولم يكتف بهذا بل علل الإنكار بقوله : ((إن الله هو السلام)) . قال البيضاوي ما حاصله : إنه أنكر التسليم على الله، وبين أن ذلك عكس ما يجب أن يقال ، فإن كل سلام ورحمة له ومنه، وهو مالكها ومعطيها. وقال غيره : وجه النهي لأنه المرجوع إليه بالمسائل، المتعالي عن المعاني المذكورة، فكيف يدعى له وهو المدعو على الحالات( ) .
وبعد التعليل يوجد النبي ص البديل لهذا القول ((ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات...)) وفي رواية أخرى( ) ((فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء ، أو بين السماء والأرض)) تعليل للبديل وترغيب فيه