المحاضرة الرابعة
النحو العربي ودوره
في تدريس اللغة العربية وفهم نظامها
الأستاذ الدكتور علي أحمد مدكور
عميد كلية التربية
جامعة السلطان قابوس
الثلاثاء 26 ربيع الآخر 1425هـ- 15 حزيران 2004م
مقدمة:
اللغة قدر الإنسان. فلغة الإنسان هي عالمه. وحدود لغة الإنسان هي حدود عالمه. فهي ولاء وانتماء، وثقافة وهوية، ووطن وشخصية.
فاللغة هي الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله، والفكر الذي يدور فينا وحولنا. فهي تحمل المجتمع في جوفها، وتعبر عن ضميره، وتشكل حياته، وتوجه سلوك أفراده، وجماعاته، ونظمه ومؤسساته.
واللغة هي الأم التي تنسج شبكة الوفاق بين أفراد المجتمع وجماعاته، ونظمه ومؤسساته، وقيمه ومعتقداته. فلا وفاق بدون لغة. ولا مجتمع بدون وفاق.
وكما تسهم اللغة في صياغة المجتمع، فإن المجتمع يسهم بدوره في صياغتها وتطويرها. فالجماعة الناطقة باللغة هي التي تهب الألفاظ معانيها، وتشتق من المفردات ما يعبر عن مستحدثاتها ومراميها.
واللغة منهج للتفكير، ونظام للاتصال والتعبير. فثقافة كل مجتمع كامنة في لغته، وفي معجمها، ونحوها، وصرفها، ونصوصها، وفنها، وأدبها.. فلا حضارة إنسانية دون نهضة لغوية.
أزمة العربية في بلادها:
اللغة العربية أهم مقومات الثقافة الإسلامية. وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطاً بعقيدة الأمة وهويتها وشخصيتها. لذلك صمدت أكثر من سبعة عشر قرناً سجلاً أميناً لحضارة أمتها وازدهارها،. وشاهداً على إبداع أبنائها وهم يقودون ركب الحضارة التي سادت الأرض حوالي تسعة قرون.
وفي اللغة العربية ذاتها سمات تميزها. من أهم هذه السمات قدرتها الفائقة على حساسية التواصل، فاللغة العربية لغة غنية ودقيقة إلى حد كبير. فقد استوعبت التراثين العربي والإسلامي، كما استوعبت ما نقل إليها من تراث الأمم والشعوب ذات الحضارة القديمة كالفارسية واليونانية والرومانية والمصرية.. إلخ. كما نقلت إلى البشرية في فترة ما، أسس الحضارة وعوامل التقدم في العلوم الطبيعية والرياضيات والطب والفلك والموسيقى. وما تزال تنقل إلى العالم اليوم العقيدة الشاملة ممثلة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالقرآن نزل بلسان عربي مبين. وهذه حقائق يجب ترسيخها في عقول الناشئة، كما ينبغي أن تكون أهدافا ثابتة لعلوم اللغة والأدب والفنون خاصة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية عامة.
وهي لغة موسيقية شاعرة. فإذا تكلم ذو بيان فإنك تطرب لسماعها، وتفهم بيانها، وترتاح لمعانيها وأصواتها. وهي بهذا الجرس والرنين منحت العربي التفوق في الأداء كلاماً وكتابة، وغناء وشعراً على وزن وقافية. لذلك يجب التركيز في مناهج تعليمها على تدريب المتعلم على التذوق الأدبي والفني، وعلى الإحساس بالجمال في الأداء اللغوي، وعلى حسن الإلقاء.
وهي لغة متميزة من الناحية الصوتية؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات في اللغات السامية. وأصواتها تستغرق كل جهاز النطق عند الإنسان، ابتداء بما بين الشفتين في نطق حروف كالباء والميم والفاء، وانتهاء، بجوف الناطق في حروف كالألف والواو والياء.(1)، لذلك فإن تدريب الأبناء على إخراج الحروف من مخارجها، ونطق الأصوات بطريقة سليمة، يعتبر هدفاً من أهم أهداف مناهج تعليم اللغة العربية.
وبالرغم من تميز اللغة العربية، إلا أننا نعيش أزمة لغوية طاحنة، هي – في الواقع – دليل على انتكاسة الأمة وتبعيتها، وتخلفها عن الركب. ويرجع نبيل علي أسباب الأزمة إلى عوامل كثيرة من أهمها:
1. عدم إلمام الكثيرين لدينا بجوانب إشكالية اللغة؛ حيث يقتصر تناولها في أغلب الأحوال على الجوانب التعليمية، والمصطلحية، خوفاً من الخوض في دراسة علاقة اللغة العربية بالدين والسياسة القومية والوطنية.
2. قصور العتاد لمعظم منظرينا اللغويين. وخاصة بعد أن أصبحت اللغة ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي، والعلمي، والتربوي، والفني، والإعلامي، والتقاني.
3. خطأ التشخيص لدائنا اللغوي. حيث يوجه الاتهام إلى إدانة اللغة العربية ذاتها، تحت زعم أن هذه اللغة الإنسانية العظيمة تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر!
4. الابتعاد عن السبب الحقيقي وراء ذلك، وهو العولمة الاقتصادية. وانبهار الجماهير العربية بثقافة الغرب ولغاتها، وتدهور اهتمام الجماهير باللغة العربية، وعدم اعتزازهم بها. وإلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة والجامعات الخاصة، التي تعلم باللغات الأجنبية، والافتخارُ بذلك واعتبارُه نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، ودليلاً على التقدم الحضاري !!! وهنا تقوم اللغة العربية دليلاً شاهداً على الانتكاسة الثقافية للأمة في الوقت الحاضر.
5. غياب إرادة الإصلاح اللغوي. إننا نعاني من أزمة لغوية حادة تلطخ جبيننا الحضاري. وجاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى الأمة بعداً جديداً، يتعلق بضرورة معالجة اللغة العربية آلياً بواسطة الحاسوب.(2) ومع ذلك فحركات التعريب تواجه معارضة شديدة بعد أن سارت شوطاً لا بأس به من قبل. والحكومات عاجزة، أو فلنقل بصراحة غير راغبة في فرض تشريع ملزم بعدم استخدام اللغات الأجنبية في التعليم، وفي لافتات المحلات، وغير راغبة في أن تقتدي حتى بإسرائيل التي تحرم استخدام المصطلح الأجنبي الذي يتم إقرار مقابل له باللغة العبرية .. ووصل بهم الأمر إلى أنهم يعلمون أبناء العرب اللغة العربية باللغة العبرية!
6. عولمة تعليمنا، بحيث لا تعكس سياساته، ومفاهيمه، وسلوك مدرسيه، وأداء طلابه، ما للغة الأم من أهمية. فالاهتمام باللغة العربية لا يتم إلا من خلال المقرر الخاص بها! وأما المقررات الأخرى فهي حرة طليقة من قيود العربية والالتزام بها. وفي مقرر اللغة العربية ذاته، يتم اختزال العربية في النحو. ويتم اختزال النحو في إعراب أواخر الكلم! ويصل الأمر إلى حد الإبكاء عندما تعلم اللغة العربية من قبل المدرسين باللهجات العامية! ... وهكذا لم يثمر التعليم العربي – في الواقع- إلا مزيداً من عزوف الطلاب عن مداومة تعلم لغتهم الأم، وتذوق مآثرها!
7. التعليم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام والعالي، بالرغم من الحقيقة العلمية التي أجمع عليها الباحثون واللغويون، وهي أن التعليم بغير اللغة الأم يغلق مفاتيح الفكر، ويعوق عملية الإبداع والابتكار لدى المتعلمين، إلا أن المخططين للسياسة التعليمية قد صموا آذانهم – رغم الاعتراضات المتكررة في كل الندوات والمؤتمرات – عن سماع ذلك. وسمحوا بإنشاء المدارس التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام وهو الأمر المحرم لدى الدول المتقدمة. كما سمحوا بفتح الشعب والأقسام التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العالي. غير ناظرين إلى التجربة المصرية القديمة التي كانت تعلم الطب باللغة العربية، وخرجت الأفذاذ النادرين الذين لا يثق معظم الناس إلا بطبهم وعلمهم. وغير مهتمين بالتجربة السورية الرائعة السائدة حاليا!
ولقد أدى الاهتمام بالتعليم باللغات الأجنبية إلى إهمال حركة التعريب بل وإلى معارضته من قبل كثيرين من الأكاديميين، بل ومن بعض رواد الحداثة وما بعدها!.
إننا بحاجة إلى إثارة وعي القيادات السياسية في الوطن العربي بخطورة المشكلة اللغوية. التي هي من الخطورة والأهمية بحيث يصعب علاجها أو تناولها من دون إستراتيجية واضحة للإصلاح اللغوي الشامل، وذلك في إطار خطة قومية أكثر شمولا لإعداد الأقطار العربية للدخول إلى عصر المعلومات والمعرفة.(3)
إن رسم الخطة القومية سالفة الذكر يتطلب الإجابة عن الأسئلة الآتية:
- كيف نهيئ لغتنا العربية لمطالبة عصر المعلومات؟
- كيف نبعث الحياة في كيان هذه اللغة العظيمة تنظيرا، وتعليما، واستخداما؟
- كيف نحررها من احتكارية بعض المتخصصين فيها الذين يدورون حولها ولا يردون حوضها؟
- كيف نخرجها من دائرة اهتمام المتخصصين فقط إلى الدائرة الأوسع والأشمل. وخاصة بعد أن صار علم اللغة الحديث يستند – فيما يستند - إلى الرياضيات، والهندسة، والإحصاء، والمنطق، والبيولوجي، والفسيولوجي، والسوسيولوجي، وأخيراً علم الحاسوب ونظم المعلومات؟
- كيف نهتم بالمعالجة الآلية للغة العربية، ونعرّب نظم التشغيل، وننتج لغات برمجة عربية، ونستعد للدخول إلى عصر الترجمة الآلية عن طريق اللغة العربية. (4)
إن التقاعس في هذه الأمور في غاية الخطورة؛ حيث إن إسرائيل قد تقدمت إلى منظمة الوحدة الأوروبية لتطوير نظم الترجمة الآلية من لغات دول السوق إلى اللغة العربية (لا العبرية)؛ وذلك حتى تتأهل لدخول الأسواق العربية من هذا الباب، وحتى تستطيع النفاذ المباشر إلى التفاصيل الفنية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات، والاحتفاظ بالأسرار التكنولوجية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات. فإذا سمحنا لإسرائيل أن تتولى نيابة عنا مهمة معالجة اللغة العربية آلياً، فعندئذ تكون قد حلت بنا كارثة ثقافية كبرى.(5)
ضرورة تعليم الناشئة مبادئ البرمجة:
إن نظم التشغيل تتعامل حاليا مع اللغة العربية مثلها مثل غيرها من اللغات الأخرى على مستوى عنصر الحرف . لكن مع تقدم نظم التشغيل الآتي لا محالة، سوف ترتقي هذه النظم للتعامل مع الكلمة العربية، أي على المستوى الصرفي، ثم مع الجملة العربية؛ أي المستوى النحوي. لكن هذا يحتاج إلى جهود المستثمرين، ومساهمة الباحثين والخبراء والمطورين؛ لأن شركات المايكروسوفت الأجنبية ليس لديها الدافع للإنفاق على اللغة العربية، وليس لديها الخبراء في هذه اللغة أيضاً. لذا يحتاج الأمر إلى جهود المخلصين من أبناء الوطن العربي في كل هذه المجالات.
كما أننا في أمس الحاجة إلى أن نعلم صغارنا مبادئ البرمجة باللغة العربية؛ نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين البرمجة والفكر من جانب، وبين الفكر واللغة من جانب آخر. وقد عربت لغات سهلة للصغار مثل لغة "اللجو" ولغة "البيسك" إلا أن جهود التعريب قد توقفت – للأسف – هي الأخرى، في ظل غياب الحماس للتعريب عموماً إضافة إلى أسباب أخرى.
النحو منهج للتفكير ونظام للتعبير والاتصال :
ولكن أين موقع النحو من كل هذا؟ وما دوره في تدريس العربية وحفظ نظامها؟
إن الغاية من تدريس النحو إرساء النظام اللغوي في الذهن، وإقامة اللسان، وتجنب اللحن في الكلام؛ فإن تحدث المتعلم أو قرأ أو كتب كان واضح المعنى، مستقيم العبارة، جميل الأسلوب.
إن تعلم اللغة العربية إنما هو عملية ذهنية واعية لاكتساب السيطرة على الأنماط الصوتية والنحوية والمعجمية، من خلال دراسة هذه الأنماط وتحليلها بوصفها محتوى معرفياً. فتعلم اللغة يستند إلى الفهم الواعي لنظام اللغة كشروط لإتقانها. فالكفاية المعرفية سابقة على الأداء اللغوي وشرط لحدوثه.(6)
النظريات اللغوية وموقفها من النحو:
لكن تدريس النحو قد خضع لنظريات لغوية حددت موقفها عبر التاريخ.
إن النحو العربي من حيث محتواه وطرائق تدريسه ـ كما يعلم عندنا ـ ليس علماً لتربية الملكة اللسانية العربية، وإنما هو علم تعليم وتعلم صناعة القواعد النحوية! وقد أدى هذا مع مرور الزمن، إلى النفور من دارسته، وإلى ضعف الناشئة في اللغة ذاتها.
إن جوهر المشكلة ليس في اللغة ذاتها، إنما هو في كوننا نتعلم العربية قواعد صنعة، وإجراءات تلقينية، وقوالب صماء، نتجرعها تجرعاً عقيما، بدلا من تعلمها لسان أمة، ولغة حياة.(7)
إنه لا يمكن فهم دور النحو في تدريس اللغة العربية، دون فهم النظريات التي تفسر نظام اللغة، وتحكم طرائق تعليمها وتعلمها على مر العصور.
ويمكن القول ـ بصفة عامة ـ إن تفسيرَ نظام اللغة وطريقةَ تعليمها وتعلمها، والوقوفَ على دور النحو في ذلك، قد مر عبر العصور من خلال ثلاث نظريات رئيسية هي :
- النظرية البنيوية
- والنظرية السلوكية
- والنظرية المعرفية
وسنعرض لكل نظرية من هذه النظريات، ولدور النحو فيها من حيث المبنى والمعنى والتعليم والتعلم فيما يأتي من هذه الورقة.
النظرية البنيوية
يرى الباحث أن "البنيوية" اسم حديث نسبياً لطروحات قديمة. بدأها الإمام عبدالقاهر الجرجاني ـ المتوفى سنة 471هـ ـ فيما يسمى بنظرية "النظم" التي تناولها بالتفصيل في كتابه: دلائل الإعجاز. ثم أعاد طرحها ـ بشكل أو بآخر ـ دي سوسير تحت اسم "البنيوية". ثم أعاد الحديث عنها تشومسكي في الستينات من القرن العشرين تحت اسم النظرية "التحويلية التوليدية" أو "النحو التوليدي"، الذي ظن كثير من الباحثين أنها ثورة في كيفية تعلم اللغة غير مسبوقة!
البنيوية بين عبدالقاهر
ودي سوسير وتشومسكي
نظرية النظم عند عبدالقاهر:
اهتم السابقون على الإمام عبدالقاهر الجرجاني بالألفاظ وجعلوا لها شأنا كبيرا في تحقيق بلاغة الكلام. ورفض عبدالقاهر ذلك بشدة، على اعتبار أن الألفاظ عنده تابعة للمعاني، وأنه "لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ؛ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها. إن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق. (
فالإعجاز في النص القرآني أو النص الأدبي البليغ عند عبدالقاهر لا يكمن في الألفاظ بالدرجة الأولى، وإنما يكمن في الأفكار. فطريقة بناء الفكرة وترتيبها وإخراجها هي أساس البلاغة. والبلاغة التي ترجع إلى الفكر أكثر من اللفظ تجعل لغتها عالمية، يستمتع بها أصحاب اللغات الأخرى حين تترجم لهم. فلن يستمتع غير العربي ـ مثلا ـ بنص عربي يترجم له، إذا كان كل ما يميزه هو مجموعة من الألفاظ العربية الجميلة لأن الترجمة لن تستطيع مهما بلغت دقتها نقل جمال الألفاظ العربية، وإنما يستمتع حيث يكون النص ذا قيمة فكرية. (9)
إن النَّظْم عند عبدالقاهر ذو مستويين: مستوى فكري نفسي، ومستوى لفظي صوتي، والأول هو الذي يستدعي الثاني ويؤلفه، وليس العكس. فهو يربط بين البلاغة - باعتبارها فناً قولياً - وبين الفنون الجميلة الأخرى، مثل الرسم والنحت والتصوير والنقش. ويرى أن الفنان هو الذي يهب المادة الخام وجوداً جديداً، فقد يتناول اثنان قطعة من الحجر، فيشكل واحد منهما من هذه المادة تمثالاً رائع الدقة والجمال، يكاد ينطق بالمعاني التي أودعها فيه الفنان، في حين يصنع منها الآخر مسخا مشوها لا يعبر عن شيء. وهنا تجد الفارق كبيراً بين الصورتين مع أنهما في الأصل من مادة واحدة. وكذلك الحال بين الشاعر والشاعر الآخر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي هي محصول النَّظْم (10)
والعمل البلاغي الجميل في نظرية عبدالقاهر لا يمكن الفصل فيه بين الشكل والمضمون. ولا يمكن النظر فيه إلى كل جزئية على حده. ولكنه يجب النظر إليه باعتباره كلاً متماسكاً. فالنظم من النظام. فلو أخذنا مثلا جزءاً من التمثال الجميل كأنف التمثال، وفصلناه عن بقية الجسم، فإنه لا يمكن الحكم عليه بالجمال أو عدمه، إنما يحكم عليه بموضعه من التمثال وتناسقه معه.
كذلك الأمر في الفن القولي؛ فالنَّظْم أن تكون كل جزئية فيه في خدمة النظام العام. وأن تكون كل جزئية في مكانها من التعبير تقديماً أو توسطاً أو تأخيراً. وأن تكون هناك علة وسبب يقتضي وضع كل جزئية في مكانها، حتى لو وضعت جزئية في غير مكانها لاختل النَّظْم. وهذا لا يمكن أن تحققه الألفاظ ولا غرابة الكلمات ولا خفتها، وإنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات، وموافقة هذه المعاني النفسية.
فالنظم إذن عند عبدالقاهر هو إدراك المعاني النحوية والملاءمة بينها وبين المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. أو بمعنى آخر: هو إدراك المعاني النحوية، واستغلال هذا الإدراك في حسن الاختيار والتأليف. (11)
وليس المقصود بالمعاني النحوية هنا المعنى الشائع للنحو، الذي هو إعراب أواخر الكلام، ونطق الكلام حسب القواعد الإعرابية. وإنما المقصود بقية القرائن النحوية من الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والابتداء والإخبار. فتنظر في وجوه كل باب وفروقه. فتعرف لكل حال موضعها. وتجيء بها حيث ينبغي لها، وتوضع في معناها الخاص الذي يلائم المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. فالاسم ، أي اسم، قد تجيء به فاعلا مرة، وقد تجيء به مفعولا مرة أخرى، وقد تقدمه مرة ثالثة، وقد تؤخره مرة رابعة، لأنه يدل على معنى نفسي خاص في نظم الكلام وتركيبه في كل حالة. فهناك فوارق ـ مثلا ـ بين أن تقول : زيد ينطلق وينطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد ... وهناك فوارق في وجوه الشرط والجزاء ـ مثلا ـ بين أن تقول : إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، .. وكذلك الأمر في الحال، وفي الفاعل والمفعول .. إلخ
إذن لكي يتحقق النَّظْم لا يكتفى بالإدراك الواعي للمعاني النحوية، بل لابد من إدراك كيفية استغلال هذه المعاني في بناء العبارة ونسجها، فبناء العبارة ونسجها عند عبدالقاهر- يتطلب أمرين: الأول الاختيار والثاني التأليف. أما الاختيار فيراد به اختيار الكلمة المناسبة للمعنى النفسي لدى الأديب. وهنا ينبغي إدراك أنه حتى في المترادفات، هناك كلمة أفضل من كلمة في سياق معين، بينما الأخرى قد تكون هي الأفضل في سياق آخر. أما التأليف فيراد به وضع كل كلمة في مكانها المناسب من العبارة وفقا لمعناها النحوي؛ فوضع الكلمة موضع الابتداء يختلف عن وضعها موضع الإخبار. ومجيء الخبر مقدما يختلف عن مجيئه في موضعه مؤخراً. ومجيء المفعول مقدماً على الفعل والفاعل يختلف عن مجيئه في موضعه بعدهما .. وهكذا .. فالعبرة بمدى وفاء الكلمة للمعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه.(12)
اللغويون المحدثون:
وقد حاول الباحثون ـ على نحو ما فعل عبدالقاهر ـ بناء ماسماه بنظرية إسلامية للغة، تقوم على أساس أن اللغة عملية عقلية معقدة تتجلى في توخي معاني النحو بين معاني الكلمات بناء على مقتضيات العقل ، لبناء تراكيب في الذهن متطابقة مع مقاصد المتكلم وأغراضه. هذه التراكيب أساسها المعاني النحوية والمعاني المعجمية، حيث إن عمليات التفكير العقلية لا تتعامل مع معاني الكلمات مفردة، بل تتعامل معها عندما تكون مرتبطة بمعاني النحو. هذه العمليات العقلية تربط أغراض المتكلم بهذه التراكيب في داخل الذهن، ثم تربط هذه التراكيب مع شكلها الصوتي ـ الألفاظ ـ في خارج الذهن، في الفم واللسان والبلعوم(13)
وعلى هذا ترى هذه النظرية أن المعاني هي الأساس في تركيب الكلام، بينما تبقى الأصوات ـ أي الألفاظ ـ تابعة لهذه المعاني وخادمة لها. كما ترى هذه النظرية أن اختلاف الألسن بين البشر آية من آيات الله، قال تعالى: " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين". (الروم: 22)
ويرى صاحب هذه الفكرة أن الله قد أودع في جهاز اكتساب اللغة وإنتاجها قوانين أساسية لأي لغة إنسانية في كل زمان ومكان. فمعاني الكلام: الخبر والاستفهام والتعجب والأمر والنهي، وما إلى ذلك، كلها متوفرة لجميع البشر. إضافة إلى ذلك فقانون الإسناد من مسند ومسند إليه هو الركيزة الأساسية في بناء الكلام الإنساني.وعملية الإسناد هذه تقوم على قواعد التعليق التي ذكرها الجرجاني. وهي قواعد فطرية وضعها الله في ذهن الإنسان. وترى أن الاسم له أهمية كبيرة في عملية الإسناد مقارنة بالأفعال والحروف التي لا تقوم بهذا الدور. قال تعالى : "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" (البقرة:31)
وترى هذه النظرية أن قواعد التعليق السابق الإشارة إليها تساعد على وصف الاختلاف بين اللغات. كما يرى صاحب هذه الدراسة أن النظرية الإسلامية للغة والأفكار التي استندت إليها، لها إمكانات هائلة لم تتحقق بعد. ويمكن تحقيقها إذا توفرت لها الهمم والعزائم والرغبات الصادقة.(14)
العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات:
ويمكن الربط بين القوانين الأساسية لاكتساب اللغة وإنتاجها في التصور الإسلامي السابق، وبين ماسماه بعض الباحثين ـ وهو بصدد بيان أوجه الالتقاء والافتراق بين اللغة الإنسانية ولغة الجينات ـ بالعمومية اللغوية.(15) فقد ثبت نظرياً، ومن خلال البحوث الميدانية للأنثربولوجيا اللغوية، أن جميع اللغات الأساسية تشترك في خصائص عديدة، سواء على مستوى الصوتيات، أو بنية الكلمات، أو تراكيب الجمل وأنماطها. أما لغة الجينات فهي لغة عامة مشتركة بين جميع الكائنات. وهي تتسم بدرجة عالية من العمومية، حيث تستخدم نفس الأبجدية الرباعية، ونفس الكود الوراثي، أو معجم الكلمات (الكودونات)، التي تشفر لنفس مجموعة الأحماض الأمينية.
وتفيد القراءة في سفر الإنسان أو الجينوم البشري (16) أن المادة الوراثية لكل الناس سواء. نحن البشر جميعا نشترك في 99.9% من مادتنا الوراثية؛ فالاختلافات بين الشعوب ضئيلة جداً. وهذه الفروق، وإن كانت ضئيلة جدا، موجودة. وستجد من يضخم فيها من العنصريين وأنصار تميز الأجناس، وخاصة ممن يمتلكون العلم في زماننا؛ فمن يمتلك العلم هو صاحب القوة.
ولكن ينبغي الإحاطة بأنه رغم العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات، إلا أن عمومية لغة الجينات تفوق عمومية اللغات الإنسانية، نظراً لوحدة أبجدية لغة الجينات، واختلاف أبجدية اللغات الإنسانية واختلاف معاجمها. إلا أنه يبقى أنهما يشتركان في صفة العمومية، ولا ينبغي استبعاد أن العمومية اللغوية هي نتاج العمومية في لغة الجينات... وذلك يحتاج إلى المزيد من البحث بالتعاون مع العلماء المهتمين بكشف أسرار خريطة الجينوم البشري، والعلاقة بين اللغة وبين البيولوجيا الجزيئية.
الخاصية التوليدية عند عبدالقاهر:
لقد واجه اللغويون قديما وحديثا سؤالاً مهماً هو: كيف للغة الإنسانية المحدودة من حيث عدد الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ وجاءت الإجابة من قبل على يد عبدالقاهر الجرجاني، في سياق حديثه عن المعاني النحوية التي هي الأساس في تشكيل النَّظْم. فهو يرى أن النظم إنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات وموافقتها للمعاني النفسية. فالمقصود بالمعنى النحوي هو الدور الذي تؤديه الكلمة في التركيب، واختلاف هذا الدور للكلمة الواحدة باختلاف التراكيب التي توضع فيها هذه الكلمة.
إذن فالكلمة الواحدة تكتسب معاني كثيرة بحسب المكانة التي تأخذها في التراكيب، فإن جاءت فاعلاً يكون لها معنى، وإن جاءت مفعولا يكون لها معنى آخر، وإن جاءت ظرفاً يكون لها معنى ثالث، وإن جاءت حالاً، أو تمييزاً، أو مضافاً إليه، أو مبتدأ، أو خبراً، أو اسما لإن أو خبراً لكان ... الخ فإنها تعبر عن معان مختلفة. وأحيانا تأتي نفس الكلمة مصاغة في صيغة معينة، كصيغة المبالغة، أو اسم الفاعل، أو الصفة المشبهة، أو اسم المفعول؛ فيختلف المعنى النحوي لها في كل حالة. وكذلك الأمر إذا جاءت على وزن فعَل بفتح العين فإنها تختلف عنها هي نفسها إذا جاءت على وزن فعُل بضم العين .. وهكذا وهلم جراً.
والجدير بالملاحظة هنا أن اختلاف وضع الكلمة في التركيب يولد معاني نحوية كثيرة. والعربية هنا من أغنى لغات العالم. لكن الأجدر بالملاحظة هنا أيضاً هو أن إدراك الفوارق الدقيقة التي يحدثها تغيير مكانة كل كلمة في الجملة، وإدراك الوضع المناسب للكلمة بحيث تغطي المعنى النفسي المطلوب، هو الذي يحقق معنى النَّظْم، وهو سر البلاغة في القول البليغ.
وقد عبر الإمام عبد القاهر عن هذا "التوليد النحوي" الذي يحدث نتيجة الوضع الدقيق للكلمة في الجملة أو العبارة، وقد أعطى مثالاً لذلك بقوله: "فلينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق، وزيد ينطلق ، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، وزيد هو المنطلق... ولننظر في الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج.كما يمكن النظر في الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، وجاءني وقد أسرع(17) وهكذا يتم توليد المعاني النحوية الكثيرة من ألفاظ قليلة وذلك باختلاف موضع الكلمة في الجملة، وبإدراك المعاني الدقيقة للكلمة في السياق، مما يولد المعاني النحوية المختلفة.
النحو التوليدي لدى عبدالقاهر وتشومكسي:
وقد جاءت الإجابة عن السؤال السابق. وهو كيف للغة الإنسانية المحدودة الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ على لسان تشومسكي صاحب نظرية "النحو التوليدي" في العصر الحديث، التي تتناول كيفية توليد الصيغ اللغوية المتعددة من الكلمات وأشباه الجمل والتي تلخصها مقولته الشهيرة: اللغة هي الاستخدام اللامحدود لموارد محدودة.
ويوجه نبيل علي النظر إلى العلاقة في الخاصية التوليدية بين البيولوجيا الجزيئية وبين اللغة. فإذا كانت اللغة تستطيع أن تولد معاني نحوية كثيرة من مفردات وحروف قليلة، فقد أظهر مشروع الجينوم خطأ التقديرات السابقة لعدد جينات النص الوراثي البشري، والتي تقدر حاليا بمالا يزيد عن 35 ألف جين، إذ لا بد أن يكون هذا الرقم غير دقيق، وإلا فكيف لهذا العدد المحدود من الجينات أن يولد كل هذه البروتينات والإنزيمات والوظائف الفسيولوجية، والخصائص البيولوجية والغرائز النفسية؟ لكن الإجابة جاءت عن طريق نظرية النحو التوليدي التي تتناول توليد الصيغ اللغوية المتعددة من حروف وكلمات ومقاطع محدودة.
وفي ظل ماطرحناه من "التوليد النحوي" الذي بدأه عبدالقاهر، وبنى حوله تشومكسي نظريته اللغوية، لا يبدو غريبا أن يكون عنوان المحاضرة التي ألقاها أحد علماء البيولوجي في حفل منحه جائزة نوبل هو : التوليد النحوي للحياة(18)
ثنائية البنية اللغوية:
لقد أقام الإمام عبدالقاهر نظريته في النَّظْم على ثنائية المعاني والألفاظ. إلا أنه قد أعلى من شأن المعاني وجعلها الأساس في اختيار الألفاظ وتركيبها، حيث قال: إنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ، من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك. فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل ستجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها، ولاحقة بها. وإن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق.(19)
على النسق نفسه تقريباً أقام تشومكسي نظريته اللغوية على أساس أن منظومة اللغة ذاتُ بنية ثنائية. ويقصد بذلك أن الجملة اللغوية لها بنية سطحية ظاهرة هي تلك التي ننطق بها (أي الألفاظ)، وبنية منطقية عميقة، وهي البنية التي تتشكل في مخ صاحب الجملة قبل النطق بها (أي المعاني المرتبة)... وعملية الإخراج الصوتي هي عملية تحول هذه البنية العميقة، أي البنية الفكرية، وقد تجسدت ألفاظاً، وأصواتاً، ونبراً وتنغيماً، وتقديماً وتأخيراً، وإظهاراً، وحذفاً، وإضماراً ... إلخ.
وهكذا نرى أن الثنائية اللغوية لدى العالمين واضحة. ولكننا نرى أن عبدالقاهر كان مبدعاً في تأكيده أن بنية اللغة إنما تبدأ في الذهن بالوقوف على المعاني وترتيبها، والعلم بمواقعها في النفس، وما يستتبع ذلك من دقة الاختيار والترتيب للألفاظ المنطوقة. وربما كان ذلك هو السبب في أن دي سوسير قد سمى الأفكار والمعاني "البنية العميقة".
لكننا ـ مع ذلك ـ نفهم من معنى "النَّظْم" أن عبدالقاهر قد جعل الثنائية تتلاشى في عنصر ثالث هو النَّظْم. وجعل البلاغة كلا متكاملاً من المعنى واللفظ معاً. وبما أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، فالنظم ـ إذن ـ عنصر ثالث. فالثنائية اللغوية قد تحولت على يديه إلى ثلاثية(20).
دي سوسير والبنيوية.
جاء اللغوي السويسري فردينان دي سوسير في بداية القرن العشرين ليؤكد ما قاله عبدالقاهر من قبل ثمانية قرون؛ فاللغة في رأيه "نظام" من العناصر القواعدية والمعجمية المترابطة. فهي ليست تلك الظاهرة المتمثلة في التجليات السطحية من الألفاظ والعبارات والنصوص؛ فتحت ظاهر سطحها، ترقد بنية عميقة متعددة العناصر والمستويات؛ نسق معرفي من العلاقات الفكرية التي تربط بين الأفكار والألفاظ؛ وبين مكونات تركيب الجمل والفقرات؛ وبين المعنى والسياق؛ وبين أصل اللفظ ومشتقاته؛ وبين تنغيم الكلام ونية المتكلم .. وهلم جراً. وهذه العلاقات في طبيعتها ليست علاقاتٍ اعتباطية عشوائية، بل يحكمها عدد من المبادئ العامة التي تشترك فيها جميع اللغات، كما سبق القول.
لقد قامت البنيوية لدى دي سوسير على ثنائية الرمز ومدلوله، ليمهد بهذه الثنائية للقاء اللغة مع المعلوماتية وجوهوها الثنائي المعروف.
ولما كانت اللغة هي "سندريلا"(21) العلوم ورابطة العقد في خريطة المعرفة الإنسانية، فقد امتدت البنيوية إلى مجالات معرفية أخرى . وكان أن طبقت في مجالات علم النفس، ونقد الأدب والشعر، والتنظيمات السياسية والاجتماعية. وقد يكون من المناسب في هذا المجال القول بأن عبدالقاهر كان أول من وضع أسسا علمية لنقد الأدب والشعر، وهي تلك التي أشار إليها في نظريته للنَّظْم التي سبقت الإشارة إليها.
وتقوم البنيوية لدى دي سوسير على ركيزتين : الأولى وجود علاقة عضوية بين الرمز اللغوي ومعناه، والثانية ضرورة الفصل في التحليل البنيوي بين الموضوع، وبين وجهة النظر الذاتية للشخص القائم بعملية التحليل؛ وذلك ضمانا للموضوعية في التحليل. سواء كان موضوع التحليل موضوعاً أدبياً أو أسطورة أو تنظيماً اجتماعياً.
العولمة تستخدم التفكيكية في هجومها الحالي :
تختلف التفكيكية مع التوجيهين السابقين ؛ فالرمز اللغوي أو اللفظ لا يحيل إلى معنى بعينه، كما في البنيوية، بل يحيل إلى رمز آخر، والرمز الآخر يحيل إلى رمز آخر .. وهكذا تسلم الرموز بعضها إلى بعض بطريقة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي. فالمعنى ـ بالتالي ـ مرجأ دوماً .. ليظل الكاتب أو القارئ يدور في حلقة مفرغة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي.(22)
وبناء على هذا الإرجاء والاستحالة في الوصول إلى المعنى، أطلقت التفكيكية حرية قراءة النصوص... حتى النصوص المقدسة. فهناك عدد لا نهائي من القراءات المحتملة لكل نص، وفقا لخلفية القارئ وهدفه من وراء القراءة. وعلى هذا الأساس جاءت نظرية القراءة التي أسسها جاك دريدا، والتي استحدثت منهجاً لتفكيك النص المكتوب، والكشف عن تناقضاته الكامنة، وثغرات فكر مؤلفه، ومناوراته اللغوية.(23).
والآن تستخدم العولمة الأسلوب التفكيكي في هجومها على الثقافات الأخرى، وخاصة الثقافة العربية الإسلامية، بقصد تقطيع أوصالها ، وعزل ثوابتها عن متغيراتها، ثم إعادة بنائها على نحو جديد لخدمة أغراض المعولِمين!
البنيوية وتدريس النحو:
ما دور النحو في الحفاظ على اللغة؟ وكيف يدرس وفقا لهذه النظرية؟
إن المدخل في تدريس اللغة ـ وفقاً لهذه النظرية ـ هو شرح النظام النحوي والصرفي ( البنية العميقة) ثم الانطلاق من هذه المعاني النحوية وقواعدها إلى المهارات اللغوية الأخرى والتطبيق عليها، من خلال الألفاظ والجمل والأمثلة والشواهد والنصوص .. إلخ وهو مانسميه حاليا بالطريقة "القياسية" في تعليم اللغة العربية للناطقين بها، وطريقة "النحو والترجمة" في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
لقد ظن البعض أن الطريقة القياسية تعود إلى عصر النهضة في البلاد الأوربية، كأثر من آثار الممارسة في اللغتين اليونانية واللاتينية. لكن التاريخ يروي لنا أن هذه الطريقة عميقة في ممارسة تعليم اللغة في التاريخ العربي الإسلامي، خاصة في كتاب سيبويه، وكتب ابن عقيل، وشذور الذهب، والأشموني وغيرها من الكتب التي تبعت الطريقة القياسية في تعليم العربية لأبنائها وطريقة النحو والترجمة في تعليم العربية لغير الناطقين بها.
والطريقة القياسية هي إحدى طرق التفكير التي يستخدمها العقل في الوصول من المعلوم إلى المجهول. والفكر في القياس ينتقل من القاعدة العامة إلى الحالات الجزئية بناء على القاعدة؛ أي من القانون العام إلى الحالات الخاصة.ولما كانت الجزيئات قد لا تنطوي كلها تحت القاعدة العامة ؛ فقد أدى هذا إلى الحذف ، والتقدير، والتأويل، واختلاف الآراء في المسألة الواحدة. لكن المشكلة أن تدريس النحو صار غاية في ذاته لدى المتأخرين؛ حيث نظر إليه على أنه وسيلة لتنمية ملكات العقل وطريقة التفكير، بصرف النظر عن الممارسة اللغوية الصحيحة!
وتقوم طريقة النحو والترجمة في التدريس على شرح القواعد والانطلاق منها إلى تعليم قراءة النصوص العربية وترجمتها إلى اللغات الأم أو اللغات المحلية. وقد اعتمد على هذه الطريقة في تعليم العربية في جنوب شرق آسيا، وفي أفريقيا. حيث كان الطلاب يحفظون سور القرآن، وتشرح لهم الألفاظ والمعاني، ثم تشرح القواعد التي تساعد على فهم التراكيب، ثم يدربون على قراءة النصوص وكتابتها وترجمتها إلى اللغات المحلية.
ومن أهم منطلقات هذه النظرية في تدريس اللغة ما يأتي:
1. اللغة نظام من القواعد النحوية التي لابد من فهمها كشرط لممارسة اللغة على نحو صحيح.
2. اللغة نشاط ذهني، وتدريب عقلي، يشتمل على تعلم نظام اللغة، وتذكر قواعدها، والتفريق بين المعاني النحوية، ثم القياس عليها من الأمثلة والنصوص.
3. نظام اللغة وقواعدها النحوية والصرفية هو الإطار المرجعي لتعليمها وتعلمها.
4. سيطرة الدارسين وفقاً لهذه النظرية يكون على مهارات القراءة والكتابة قبل الاستماع والكلام.
طرائق التدريس وفقا للنظرية البنيوية:
الطرائق المتبعة في تدريس العربية وفقا للنظرية البنيوية كالطريقة القياسية وطريقة النحو والترجمة، تسير غالباً على النحو الآتي:
1. يلم الدارس بقواعد اللغة العربية ويتعرف على أصواتها وقواعدها وخصائصها أولاً.
2. تقدم القواعد النحوية حسب الترتيب المنطقي لها، ثم يتم القياس عليها عن طريق الشواهد والنصوص البلاغية.
3. تقدم الأمثلة والنصوص والتراكيب حسب ما يقتضيه نظام اللغة وقواعدها؛ فالألفاظ تابعة للمعاني النحوية. والطلاب - بمساعدة المعلم - يردون الفروع إلى الأصول ويطبقون القواعد على النصوص.
4. ضبط النصوص والأمثلة والشواهد مرتبط بمعرفة النظام اللغوي والقواعد النحوية والصرفية.
5. "إذن فتنمية قدرات الطالب العقلية هدف أساسي من أهداف هذه الطريقة حتى يستطيع مواجهة مواقف التعلم المختلفة بمشكلاتها غير المتوقعة. من هنا يتدرب الطالب كثيرا على القياس النحوي، وعلى استقراء القاعدة النحوية" في الأمثلة والشواهد والنصوص البلاغية.(24)
النظرية السلوكية
أرى أن النظرية السلوكية لم تبدأ حديثا مع السلوكيين في القرن العشرين وإنما تمتد جذورها عبر التاريخ إلى العلامة ابن خلدون المتوفي سنة 727هـ، وإلى نظريته المسماة "الملكة اللسانية".
تقوم نظرية الملكة اللسانية عند ابن خلدون على أسس ثلاثة:
أولها : أن "السمع أبو الملكات اللسانية"(25)
ثانيها: أن اللغة هي "عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان".(26)
ثالثها: أن تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو، الذي هو علم صناعة الإعراب.
أما السلوكيون المحدثون فقد تمثلت آراؤهم في كتاب "السلوك اللغوي" الذي أصدره عالم النفس السلوكي المشهور سكنر عام 1957م. فقد لجأ السلوكيون في محاولتهم تفسير السلوك اللغوي إلى العوامل الخارجية التي تؤثر فيه. فالسلوك اللغوي في نظرتهم عبارة عن مثير واستجابة.
وقد شن تشومسكي هجوما عنيفاً في مقالة له عام 1959 ينتقد فيها كتاب سكنر سالف الذكر ورؤيته السطحية للسلوك اللغوي.
وبعد الستينيات انتقل الاهتمام إلى المتعلم ذاته باعتباره عاملاً أساسياً وفاعلاً في عملية تعلم اللغة. ومن ثم بدأ التركيز على المتعلم وحاجاته والأغراض التي يتعلم اللغة من أجلها.
كيف يكتسب الإنسان اللغة؟
ولكن كيف يكتسب الإنسان اللغة؟ سؤال طرح كثيراً دون إجابة شافية في معظم الحالات. نحن ندرك المدخلات إلى الموقف التعليمي؛ لأن هذا نصنعه بأيدينا. ونحن قادرون على قياس المخرجات عن طريق أساليب القياس المختلفة. لكننا لاندري حتى الآن ماذا يحدث داخل العمليات، أي داخل المخ الإنساني، هذه المعجزة المحيرة، صنع الله الذي أحسن كل شيء.
سكنز والسلوكيون:
للإجابة عن السؤال الذي بدأنا به هذا الحديث، وهو كيف يكتسب الصغار اللغة الأم؟ على نفس النمط تقريباً الذي قال به ابن خلدون استحالت اللغة في نظر سكنر، صاحب النزعة السلوكية المحضة في علم النفس المعرفي إلى نظام لاكتساب العادات. فهي نوع من أنواع السلوك الشفاهي لا يختلف عن غيره من أنواع السلوك الأخرى، التي يكتسبها الفرد من خلال الخبرة، والتجربة، والمحاولة والخطأ. وبذلك تحولت اللغة إلى مجرد نوع من أنواع السلوك السمعي الشفاهي! كما رأينا عند ابن خلدون.
وبهذا التفسير حاول سكنر أن يخضع اللغة قسرا لثنائية المثير والاستجابة. أي أن اللغة مدخلات ومخرجات. وأغفل بذلك جوهر القضية، حيث يكمن السر اللغوي، أي العمليات التي تحدث بين المثير والاستجابة. باختصار لقد افترض سكنر عدم وجود علاقة أو وسيط بين المثير والاستجابة، وربط بين المثير ورد الفعل مباشرة دون اعتبار لما يحدث بينهما داخل المخ الإنساني.(27) وذلك خلافا للفهم البنيوي الذي يفترض وجود بنية عميقة داخل المخ البشري لمعالجة المعلومات اللغوية وغير اللغوية. وبذلك وضعت البنيوية أساس علم النفس المعرفي.
اكتساب اللغة : نموذج ابن خلدون وسكنر
فلو أخضعنا هذا النموذج لمفهوم النُّظُم المكون من مدخلات وعمليات، ومخرجات، فإننا نجد أن نموذج سكنر قد قفز فوق العمليات ولم يعترف بوجودها أصلاً. أما ابن خلدون فقد حاول وصف ما يحدث داخل النفس نتيجة الحفظ والتكرار فقال: "إن الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقوم أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة. ثم يزداد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة".
وعلى العكس من ذلك، فقد تأثر كل من دي سوسير وتشومكسي بافتراض كانط وجود قدرة ذاتية كامنة في العقل الإنساني، أو "غريزة" لغوية تتوارثها أجيال البشر أو بنية عميقة قوامها نسق معرفي كامن في العقل يربط بين المدخلات والمخرجات.
وفي غياب البحث العلمي التطبيقي لإثبات صحة هذه الفرضية لجأ تشومسكي إلى التجريد الفلسفي لإثبات وجود هذه الغريزة لكي يفسر الكيفية التي يكتسب بها الأطفال لغتهم الأم، وذلك بتطويع هذه الغريزة للمطالب الخاصة للبيئة اللغوية التي ينشأون فيها... وهكذا استحالت اللغة وفقا لهذا النموذج الافتراضي إلى غريزة بشرية أو إنسانية عامة، مثلها مثل غيرها من الغرائز التي يشترك فيها الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وبيئاتهم الاجتماعية.
النحو العربي ودوره
في تدريس اللغة العربية وفهم نظامها
الأستاذ الدكتور علي أحمد مدكور
عميد كلية التربية
جامعة السلطان قابوس
الثلاثاء 26 ربيع الآخر 1425هـ- 15 حزيران 2004م
مقدمة:
اللغة قدر الإنسان. فلغة الإنسان هي عالمه. وحدود لغة الإنسان هي حدود عالمه. فهي ولاء وانتماء، وثقافة وهوية، ووطن وشخصية.
فاللغة هي الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله، والفكر الذي يدور فينا وحولنا. فهي تحمل المجتمع في جوفها، وتعبر عن ضميره، وتشكل حياته، وتوجه سلوك أفراده، وجماعاته، ونظمه ومؤسساته.
واللغة هي الأم التي تنسج شبكة الوفاق بين أفراد المجتمع وجماعاته، ونظمه ومؤسساته، وقيمه ومعتقداته. فلا وفاق بدون لغة. ولا مجتمع بدون وفاق.
وكما تسهم اللغة في صياغة المجتمع، فإن المجتمع يسهم بدوره في صياغتها وتطويرها. فالجماعة الناطقة باللغة هي التي تهب الألفاظ معانيها، وتشتق من المفردات ما يعبر عن مستحدثاتها ومراميها.
واللغة منهج للتفكير، ونظام للاتصال والتعبير. فثقافة كل مجتمع كامنة في لغته، وفي معجمها، ونحوها، وصرفها، ونصوصها، وفنها، وأدبها.. فلا حضارة إنسانية دون نهضة لغوية.
أزمة العربية في بلادها:
اللغة العربية أهم مقومات الثقافة الإسلامية. وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطاً بعقيدة الأمة وهويتها وشخصيتها. لذلك صمدت أكثر من سبعة عشر قرناً سجلاً أميناً لحضارة أمتها وازدهارها،. وشاهداً على إبداع أبنائها وهم يقودون ركب الحضارة التي سادت الأرض حوالي تسعة قرون.
وفي اللغة العربية ذاتها سمات تميزها. من أهم هذه السمات قدرتها الفائقة على حساسية التواصل، فاللغة العربية لغة غنية ودقيقة إلى حد كبير. فقد استوعبت التراثين العربي والإسلامي، كما استوعبت ما نقل إليها من تراث الأمم والشعوب ذات الحضارة القديمة كالفارسية واليونانية والرومانية والمصرية.. إلخ. كما نقلت إلى البشرية في فترة ما، أسس الحضارة وعوامل التقدم في العلوم الطبيعية والرياضيات والطب والفلك والموسيقى. وما تزال تنقل إلى العالم اليوم العقيدة الشاملة ممثلة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالقرآن نزل بلسان عربي مبين. وهذه حقائق يجب ترسيخها في عقول الناشئة، كما ينبغي أن تكون أهدافا ثابتة لعلوم اللغة والأدب والفنون خاصة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية عامة.
وهي لغة موسيقية شاعرة. فإذا تكلم ذو بيان فإنك تطرب لسماعها، وتفهم بيانها، وترتاح لمعانيها وأصواتها. وهي بهذا الجرس والرنين منحت العربي التفوق في الأداء كلاماً وكتابة، وغناء وشعراً على وزن وقافية. لذلك يجب التركيز في مناهج تعليمها على تدريب المتعلم على التذوق الأدبي والفني، وعلى الإحساس بالجمال في الأداء اللغوي، وعلى حسن الإلقاء.
وهي لغة متميزة من الناحية الصوتية؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات في اللغات السامية. وأصواتها تستغرق كل جهاز النطق عند الإنسان، ابتداء بما بين الشفتين في نطق حروف كالباء والميم والفاء، وانتهاء، بجوف الناطق في حروف كالألف والواو والياء.(1)، لذلك فإن تدريب الأبناء على إخراج الحروف من مخارجها، ونطق الأصوات بطريقة سليمة، يعتبر هدفاً من أهم أهداف مناهج تعليم اللغة العربية.
وبالرغم من تميز اللغة العربية، إلا أننا نعيش أزمة لغوية طاحنة، هي – في الواقع – دليل على انتكاسة الأمة وتبعيتها، وتخلفها عن الركب. ويرجع نبيل علي أسباب الأزمة إلى عوامل كثيرة من أهمها:
1. عدم إلمام الكثيرين لدينا بجوانب إشكالية اللغة؛ حيث يقتصر تناولها في أغلب الأحوال على الجوانب التعليمية، والمصطلحية، خوفاً من الخوض في دراسة علاقة اللغة العربية بالدين والسياسة القومية والوطنية.
2. قصور العتاد لمعظم منظرينا اللغويين. وخاصة بعد أن أصبحت اللغة ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي، والعلمي، والتربوي، والفني، والإعلامي، والتقاني.
3. خطأ التشخيص لدائنا اللغوي. حيث يوجه الاتهام إلى إدانة اللغة العربية ذاتها، تحت زعم أن هذه اللغة الإنسانية العظيمة تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر!
4. الابتعاد عن السبب الحقيقي وراء ذلك، وهو العولمة الاقتصادية. وانبهار الجماهير العربية بثقافة الغرب ولغاتها، وتدهور اهتمام الجماهير باللغة العربية، وعدم اعتزازهم بها. وإلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة والجامعات الخاصة، التي تعلم باللغات الأجنبية، والافتخارُ بذلك واعتبارُه نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، ودليلاً على التقدم الحضاري !!! وهنا تقوم اللغة العربية دليلاً شاهداً على الانتكاسة الثقافية للأمة في الوقت الحاضر.
5. غياب إرادة الإصلاح اللغوي. إننا نعاني من أزمة لغوية حادة تلطخ جبيننا الحضاري. وجاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى الأمة بعداً جديداً، يتعلق بضرورة معالجة اللغة العربية آلياً بواسطة الحاسوب.(2) ومع ذلك فحركات التعريب تواجه معارضة شديدة بعد أن سارت شوطاً لا بأس به من قبل. والحكومات عاجزة، أو فلنقل بصراحة غير راغبة في فرض تشريع ملزم بعدم استخدام اللغات الأجنبية في التعليم، وفي لافتات المحلات، وغير راغبة في أن تقتدي حتى بإسرائيل التي تحرم استخدام المصطلح الأجنبي الذي يتم إقرار مقابل له باللغة العبرية .. ووصل بهم الأمر إلى أنهم يعلمون أبناء العرب اللغة العربية باللغة العبرية!
6. عولمة تعليمنا، بحيث لا تعكس سياساته، ومفاهيمه، وسلوك مدرسيه، وأداء طلابه، ما للغة الأم من أهمية. فالاهتمام باللغة العربية لا يتم إلا من خلال المقرر الخاص بها! وأما المقررات الأخرى فهي حرة طليقة من قيود العربية والالتزام بها. وفي مقرر اللغة العربية ذاته، يتم اختزال العربية في النحو. ويتم اختزال النحو في إعراب أواخر الكلم! ويصل الأمر إلى حد الإبكاء عندما تعلم اللغة العربية من قبل المدرسين باللهجات العامية! ... وهكذا لم يثمر التعليم العربي – في الواقع- إلا مزيداً من عزوف الطلاب عن مداومة تعلم لغتهم الأم، وتذوق مآثرها!
7. التعليم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام والعالي، بالرغم من الحقيقة العلمية التي أجمع عليها الباحثون واللغويون، وهي أن التعليم بغير اللغة الأم يغلق مفاتيح الفكر، ويعوق عملية الإبداع والابتكار لدى المتعلمين، إلا أن المخططين للسياسة التعليمية قد صموا آذانهم – رغم الاعتراضات المتكررة في كل الندوات والمؤتمرات – عن سماع ذلك. وسمحوا بإنشاء المدارس التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام وهو الأمر المحرم لدى الدول المتقدمة. كما سمحوا بفتح الشعب والأقسام التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العالي. غير ناظرين إلى التجربة المصرية القديمة التي كانت تعلم الطب باللغة العربية، وخرجت الأفذاذ النادرين الذين لا يثق معظم الناس إلا بطبهم وعلمهم. وغير مهتمين بالتجربة السورية الرائعة السائدة حاليا!
ولقد أدى الاهتمام بالتعليم باللغات الأجنبية إلى إهمال حركة التعريب بل وإلى معارضته من قبل كثيرين من الأكاديميين، بل ومن بعض رواد الحداثة وما بعدها!.
إننا بحاجة إلى إثارة وعي القيادات السياسية في الوطن العربي بخطورة المشكلة اللغوية. التي هي من الخطورة والأهمية بحيث يصعب علاجها أو تناولها من دون إستراتيجية واضحة للإصلاح اللغوي الشامل، وذلك في إطار خطة قومية أكثر شمولا لإعداد الأقطار العربية للدخول إلى عصر المعلومات والمعرفة.(3)
إن رسم الخطة القومية سالفة الذكر يتطلب الإجابة عن الأسئلة الآتية:
- كيف نهيئ لغتنا العربية لمطالبة عصر المعلومات؟
- كيف نبعث الحياة في كيان هذه اللغة العظيمة تنظيرا، وتعليما، واستخداما؟
- كيف نحررها من احتكارية بعض المتخصصين فيها الذين يدورون حولها ولا يردون حوضها؟
- كيف نخرجها من دائرة اهتمام المتخصصين فقط إلى الدائرة الأوسع والأشمل. وخاصة بعد أن صار علم اللغة الحديث يستند – فيما يستند - إلى الرياضيات، والهندسة، والإحصاء، والمنطق، والبيولوجي، والفسيولوجي، والسوسيولوجي، وأخيراً علم الحاسوب ونظم المعلومات؟
- كيف نهتم بالمعالجة الآلية للغة العربية، ونعرّب نظم التشغيل، وننتج لغات برمجة عربية، ونستعد للدخول إلى عصر الترجمة الآلية عن طريق اللغة العربية. (4)
إن التقاعس في هذه الأمور في غاية الخطورة؛ حيث إن إسرائيل قد تقدمت إلى منظمة الوحدة الأوروبية لتطوير نظم الترجمة الآلية من لغات دول السوق إلى اللغة العربية (لا العبرية)؛ وذلك حتى تتأهل لدخول الأسواق العربية من هذا الباب، وحتى تستطيع النفاذ المباشر إلى التفاصيل الفنية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات، والاحتفاظ بالأسرار التكنولوجية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات. فإذا سمحنا لإسرائيل أن تتولى نيابة عنا مهمة معالجة اللغة العربية آلياً، فعندئذ تكون قد حلت بنا كارثة ثقافية كبرى.(5)
ضرورة تعليم الناشئة مبادئ البرمجة:
إن نظم التشغيل تتعامل حاليا مع اللغة العربية مثلها مثل غيرها من اللغات الأخرى على مستوى عنصر الحرف . لكن مع تقدم نظم التشغيل الآتي لا محالة، سوف ترتقي هذه النظم للتعامل مع الكلمة العربية، أي على المستوى الصرفي، ثم مع الجملة العربية؛ أي المستوى النحوي. لكن هذا يحتاج إلى جهود المستثمرين، ومساهمة الباحثين والخبراء والمطورين؛ لأن شركات المايكروسوفت الأجنبية ليس لديها الدافع للإنفاق على اللغة العربية، وليس لديها الخبراء في هذه اللغة أيضاً. لذا يحتاج الأمر إلى جهود المخلصين من أبناء الوطن العربي في كل هذه المجالات.
كما أننا في أمس الحاجة إلى أن نعلم صغارنا مبادئ البرمجة باللغة العربية؛ نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين البرمجة والفكر من جانب، وبين الفكر واللغة من جانب آخر. وقد عربت لغات سهلة للصغار مثل لغة "اللجو" ولغة "البيسك" إلا أن جهود التعريب قد توقفت – للأسف – هي الأخرى، في ظل غياب الحماس للتعريب عموماً إضافة إلى أسباب أخرى.
النحو منهج للتفكير ونظام للتعبير والاتصال :
ولكن أين موقع النحو من كل هذا؟ وما دوره في تدريس العربية وحفظ نظامها؟
إن الغاية من تدريس النحو إرساء النظام اللغوي في الذهن، وإقامة اللسان، وتجنب اللحن في الكلام؛ فإن تحدث المتعلم أو قرأ أو كتب كان واضح المعنى، مستقيم العبارة، جميل الأسلوب.
إن تعلم اللغة العربية إنما هو عملية ذهنية واعية لاكتساب السيطرة على الأنماط الصوتية والنحوية والمعجمية، من خلال دراسة هذه الأنماط وتحليلها بوصفها محتوى معرفياً. فتعلم اللغة يستند إلى الفهم الواعي لنظام اللغة كشروط لإتقانها. فالكفاية المعرفية سابقة على الأداء اللغوي وشرط لحدوثه.(6)
النظريات اللغوية وموقفها من النحو:
لكن تدريس النحو قد خضع لنظريات لغوية حددت موقفها عبر التاريخ.
إن النحو العربي من حيث محتواه وطرائق تدريسه ـ كما يعلم عندنا ـ ليس علماً لتربية الملكة اللسانية العربية، وإنما هو علم تعليم وتعلم صناعة القواعد النحوية! وقد أدى هذا مع مرور الزمن، إلى النفور من دارسته، وإلى ضعف الناشئة في اللغة ذاتها.
إن جوهر المشكلة ليس في اللغة ذاتها، إنما هو في كوننا نتعلم العربية قواعد صنعة، وإجراءات تلقينية، وقوالب صماء، نتجرعها تجرعاً عقيما، بدلا من تعلمها لسان أمة، ولغة حياة.(7)
إنه لا يمكن فهم دور النحو في تدريس اللغة العربية، دون فهم النظريات التي تفسر نظام اللغة، وتحكم طرائق تعليمها وتعلمها على مر العصور.
ويمكن القول ـ بصفة عامة ـ إن تفسيرَ نظام اللغة وطريقةَ تعليمها وتعلمها، والوقوفَ على دور النحو في ذلك، قد مر عبر العصور من خلال ثلاث نظريات رئيسية هي :
- النظرية البنيوية
- والنظرية السلوكية
- والنظرية المعرفية
وسنعرض لكل نظرية من هذه النظريات، ولدور النحو فيها من حيث المبنى والمعنى والتعليم والتعلم فيما يأتي من هذه الورقة.
النظرية البنيوية
يرى الباحث أن "البنيوية" اسم حديث نسبياً لطروحات قديمة. بدأها الإمام عبدالقاهر الجرجاني ـ المتوفى سنة 471هـ ـ فيما يسمى بنظرية "النظم" التي تناولها بالتفصيل في كتابه: دلائل الإعجاز. ثم أعاد طرحها ـ بشكل أو بآخر ـ دي سوسير تحت اسم "البنيوية". ثم أعاد الحديث عنها تشومسكي في الستينات من القرن العشرين تحت اسم النظرية "التحويلية التوليدية" أو "النحو التوليدي"، الذي ظن كثير من الباحثين أنها ثورة في كيفية تعلم اللغة غير مسبوقة!
البنيوية بين عبدالقاهر
ودي سوسير وتشومسكي
نظرية النظم عند عبدالقاهر:
اهتم السابقون على الإمام عبدالقاهر الجرجاني بالألفاظ وجعلوا لها شأنا كبيرا في تحقيق بلاغة الكلام. ورفض عبدالقاهر ذلك بشدة، على اعتبار أن الألفاظ عنده تابعة للمعاني، وأنه "لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ؛ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها. إن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق. (
فالإعجاز في النص القرآني أو النص الأدبي البليغ عند عبدالقاهر لا يكمن في الألفاظ بالدرجة الأولى، وإنما يكمن في الأفكار. فطريقة بناء الفكرة وترتيبها وإخراجها هي أساس البلاغة. والبلاغة التي ترجع إلى الفكر أكثر من اللفظ تجعل لغتها عالمية، يستمتع بها أصحاب اللغات الأخرى حين تترجم لهم. فلن يستمتع غير العربي ـ مثلا ـ بنص عربي يترجم له، إذا كان كل ما يميزه هو مجموعة من الألفاظ العربية الجميلة لأن الترجمة لن تستطيع مهما بلغت دقتها نقل جمال الألفاظ العربية، وإنما يستمتع حيث يكون النص ذا قيمة فكرية. (9)
إن النَّظْم عند عبدالقاهر ذو مستويين: مستوى فكري نفسي، ومستوى لفظي صوتي، والأول هو الذي يستدعي الثاني ويؤلفه، وليس العكس. فهو يربط بين البلاغة - باعتبارها فناً قولياً - وبين الفنون الجميلة الأخرى، مثل الرسم والنحت والتصوير والنقش. ويرى أن الفنان هو الذي يهب المادة الخام وجوداً جديداً، فقد يتناول اثنان قطعة من الحجر، فيشكل واحد منهما من هذه المادة تمثالاً رائع الدقة والجمال، يكاد ينطق بالمعاني التي أودعها فيه الفنان، في حين يصنع منها الآخر مسخا مشوها لا يعبر عن شيء. وهنا تجد الفارق كبيراً بين الصورتين مع أنهما في الأصل من مادة واحدة. وكذلك الحال بين الشاعر والشاعر الآخر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي هي محصول النَّظْم (10)
والعمل البلاغي الجميل في نظرية عبدالقاهر لا يمكن الفصل فيه بين الشكل والمضمون. ولا يمكن النظر فيه إلى كل جزئية على حده. ولكنه يجب النظر إليه باعتباره كلاً متماسكاً. فالنظم من النظام. فلو أخذنا مثلا جزءاً من التمثال الجميل كأنف التمثال، وفصلناه عن بقية الجسم، فإنه لا يمكن الحكم عليه بالجمال أو عدمه، إنما يحكم عليه بموضعه من التمثال وتناسقه معه.
كذلك الأمر في الفن القولي؛ فالنَّظْم أن تكون كل جزئية فيه في خدمة النظام العام. وأن تكون كل جزئية في مكانها من التعبير تقديماً أو توسطاً أو تأخيراً. وأن تكون هناك علة وسبب يقتضي وضع كل جزئية في مكانها، حتى لو وضعت جزئية في غير مكانها لاختل النَّظْم. وهذا لا يمكن أن تحققه الألفاظ ولا غرابة الكلمات ولا خفتها، وإنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات، وموافقة هذه المعاني النفسية.
فالنظم إذن عند عبدالقاهر هو إدراك المعاني النحوية والملاءمة بينها وبين المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. أو بمعنى آخر: هو إدراك المعاني النحوية، واستغلال هذا الإدراك في حسن الاختيار والتأليف. (11)
وليس المقصود بالمعاني النحوية هنا المعنى الشائع للنحو، الذي هو إعراب أواخر الكلام، ونطق الكلام حسب القواعد الإعرابية. وإنما المقصود بقية القرائن النحوية من الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والابتداء والإخبار. فتنظر في وجوه كل باب وفروقه. فتعرف لكل حال موضعها. وتجيء بها حيث ينبغي لها، وتوضع في معناها الخاص الذي يلائم المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. فالاسم ، أي اسم، قد تجيء به فاعلا مرة، وقد تجيء به مفعولا مرة أخرى، وقد تقدمه مرة ثالثة، وقد تؤخره مرة رابعة، لأنه يدل على معنى نفسي خاص في نظم الكلام وتركيبه في كل حالة. فهناك فوارق ـ مثلا ـ بين أن تقول : زيد ينطلق وينطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد ... وهناك فوارق في وجوه الشرط والجزاء ـ مثلا ـ بين أن تقول : إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، .. وكذلك الأمر في الحال، وفي الفاعل والمفعول .. إلخ
إذن لكي يتحقق النَّظْم لا يكتفى بالإدراك الواعي للمعاني النحوية، بل لابد من إدراك كيفية استغلال هذه المعاني في بناء العبارة ونسجها، فبناء العبارة ونسجها عند عبدالقاهر- يتطلب أمرين: الأول الاختيار والثاني التأليف. أما الاختيار فيراد به اختيار الكلمة المناسبة للمعنى النفسي لدى الأديب. وهنا ينبغي إدراك أنه حتى في المترادفات، هناك كلمة أفضل من كلمة في سياق معين، بينما الأخرى قد تكون هي الأفضل في سياق آخر. أما التأليف فيراد به وضع كل كلمة في مكانها المناسب من العبارة وفقا لمعناها النحوي؛ فوضع الكلمة موضع الابتداء يختلف عن وضعها موضع الإخبار. ومجيء الخبر مقدما يختلف عن مجيئه في موضعه مؤخراً. ومجيء المفعول مقدماً على الفعل والفاعل يختلف عن مجيئه في موضعه بعدهما .. وهكذا .. فالعبرة بمدى وفاء الكلمة للمعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه.(12)
اللغويون المحدثون:
وقد حاول الباحثون ـ على نحو ما فعل عبدالقاهر ـ بناء ماسماه بنظرية إسلامية للغة، تقوم على أساس أن اللغة عملية عقلية معقدة تتجلى في توخي معاني النحو بين معاني الكلمات بناء على مقتضيات العقل ، لبناء تراكيب في الذهن متطابقة مع مقاصد المتكلم وأغراضه. هذه التراكيب أساسها المعاني النحوية والمعاني المعجمية، حيث إن عمليات التفكير العقلية لا تتعامل مع معاني الكلمات مفردة، بل تتعامل معها عندما تكون مرتبطة بمعاني النحو. هذه العمليات العقلية تربط أغراض المتكلم بهذه التراكيب في داخل الذهن، ثم تربط هذه التراكيب مع شكلها الصوتي ـ الألفاظ ـ في خارج الذهن، في الفم واللسان والبلعوم(13)
وعلى هذا ترى هذه النظرية أن المعاني هي الأساس في تركيب الكلام، بينما تبقى الأصوات ـ أي الألفاظ ـ تابعة لهذه المعاني وخادمة لها. كما ترى هذه النظرية أن اختلاف الألسن بين البشر آية من آيات الله، قال تعالى: " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين". (الروم: 22)
ويرى صاحب هذه الفكرة أن الله قد أودع في جهاز اكتساب اللغة وإنتاجها قوانين أساسية لأي لغة إنسانية في كل زمان ومكان. فمعاني الكلام: الخبر والاستفهام والتعجب والأمر والنهي، وما إلى ذلك، كلها متوفرة لجميع البشر. إضافة إلى ذلك فقانون الإسناد من مسند ومسند إليه هو الركيزة الأساسية في بناء الكلام الإنساني.وعملية الإسناد هذه تقوم على قواعد التعليق التي ذكرها الجرجاني. وهي قواعد فطرية وضعها الله في ذهن الإنسان. وترى أن الاسم له أهمية كبيرة في عملية الإسناد مقارنة بالأفعال والحروف التي لا تقوم بهذا الدور. قال تعالى : "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" (البقرة:31)
وترى هذه النظرية أن قواعد التعليق السابق الإشارة إليها تساعد على وصف الاختلاف بين اللغات. كما يرى صاحب هذه الدراسة أن النظرية الإسلامية للغة والأفكار التي استندت إليها، لها إمكانات هائلة لم تتحقق بعد. ويمكن تحقيقها إذا توفرت لها الهمم والعزائم والرغبات الصادقة.(14)
العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات:
ويمكن الربط بين القوانين الأساسية لاكتساب اللغة وإنتاجها في التصور الإسلامي السابق، وبين ماسماه بعض الباحثين ـ وهو بصدد بيان أوجه الالتقاء والافتراق بين اللغة الإنسانية ولغة الجينات ـ بالعمومية اللغوية.(15) فقد ثبت نظرياً، ومن خلال البحوث الميدانية للأنثربولوجيا اللغوية، أن جميع اللغات الأساسية تشترك في خصائص عديدة، سواء على مستوى الصوتيات، أو بنية الكلمات، أو تراكيب الجمل وأنماطها. أما لغة الجينات فهي لغة عامة مشتركة بين جميع الكائنات. وهي تتسم بدرجة عالية من العمومية، حيث تستخدم نفس الأبجدية الرباعية، ونفس الكود الوراثي، أو معجم الكلمات (الكودونات)، التي تشفر لنفس مجموعة الأحماض الأمينية.
وتفيد القراءة في سفر الإنسان أو الجينوم البشري (16) أن المادة الوراثية لكل الناس سواء. نحن البشر جميعا نشترك في 99.9% من مادتنا الوراثية؛ فالاختلافات بين الشعوب ضئيلة جداً. وهذه الفروق، وإن كانت ضئيلة جدا، موجودة. وستجد من يضخم فيها من العنصريين وأنصار تميز الأجناس، وخاصة ممن يمتلكون العلم في زماننا؛ فمن يمتلك العلم هو صاحب القوة.
ولكن ينبغي الإحاطة بأنه رغم العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات، إلا أن عمومية لغة الجينات تفوق عمومية اللغات الإنسانية، نظراً لوحدة أبجدية لغة الجينات، واختلاف أبجدية اللغات الإنسانية واختلاف معاجمها. إلا أنه يبقى أنهما يشتركان في صفة العمومية، ولا ينبغي استبعاد أن العمومية اللغوية هي نتاج العمومية في لغة الجينات... وذلك يحتاج إلى المزيد من البحث بالتعاون مع العلماء المهتمين بكشف أسرار خريطة الجينوم البشري، والعلاقة بين اللغة وبين البيولوجيا الجزيئية.
الخاصية التوليدية عند عبدالقاهر:
لقد واجه اللغويون قديما وحديثا سؤالاً مهماً هو: كيف للغة الإنسانية المحدودة من حيث عدد الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ وجاءت الإجابة من قبل على يد عبدالقاهر الجرجاني، في سياق حديثه عن المعاني النحوية التي هي الأساس في تشكيل النَّظْم. فهو يرى أن النظم إنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات وموافقتها للمعاني النفسية. فالمقصود بالمعنى النحوي هو الدور الذي تؤديه الكلمة في التركيب، واختلاف هذا الدور للكلمة الواحدة باختلاف التراكيب التي توضع فيها هذه الكلمة.
إذن فالكلمة الواحدة تكتسب معاني كثيرة بحسب المكانة التي تأخذها في التراكيب، فإن جاءت فاعلاً يكون لها معنى، وإن جاءت مفعولا يكون لها معنى آخر، وإن جاءت ظرفاً يكون لها معنى ثالث، وإن جاءت حالاً، أو تمييزاً، أو مضافاً إليه، أو مبتدأ، أو خبراً، أو اسما لإن أو خبراً لكان ... الخ فإنها تعبر عن معان مختلفة. وأحيانا تأتي نفس الكلمة مصاغة في صيغة معينة، كصيغة المبالغة، أو اسم الفاعل، أو الصفة المشبهة، أو اسم المفعول؛ فيختلف المعنى النحوي لها في كل حالة. وكذلك الأمر إذا جاءت على وزن فعَل بفتح العين فإنها تختلف عنها هي نفسها إذا جاءت على وزن فعُل بضم العين .. وهكذا وهلم جراً.
والجدير بالملاحظة هنا أن اختلاف وضع الكلمة في التركيب يولد معاني نحوية كثيرة. والعربية هنا من أغنى لغات العالم. لكن الأجدر بالملاحظة هنا أيضاً هو أن إدراك الفوارق الدقيقة التي يحدثها تغيير مكانة كل كلمة في الجملة، وإدراك الوضع المناسب للكلمة بحيث تغطي المعنى النفسي المطلوب، هو الذي يحقق معنى النَّظْم، وهو سر البلاغة في القول البليغ.
وقد عبر الإمام عبد القاهر عن هذا "التوليد النحوي" الذي يحدث نتيجة الوضع الدقيق للكلمة في الجملة أو العبارة، وقد أعطى مثالاً لذلك بقوله: "فلينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق، وزيد ينطلق ، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، وزيد هو المنطلق... ولننظر في الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج.كما يمكن النظر في الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، وجاءني وقد أسرع(17) وهكذا يتم توليد المعاني النحوية الكثيرة من ألفاظ قليلة وذلك باختلاف موضع الكلمة في الجملة، وبإدراك المعاني الدقيقة للكلمة في السياق، مما يولد المعاني النحوية المختلفة.
النحو التوليدي لدى عبدالقاهر وتشومكسي:
وقد جاءت الإجابة عن السؤال السابق. وهو كيف للغة الإنسانية المحدودة الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ على لسان تشومسكي صاحب نظرية "النحو التوليدي" في العصر الحديث، التي تتناول كيفية توليد الصيغ اللغوية المتعددة من الكلمات وأشباه الجمل والتي تلخصها مقولته الشهيرة: اللغة هي الاستخدام اللامحدود لموارد محدودة.
ويوجه نبيل علي النظر إلى العلاقة في الخاصية التوليدية بين البيولوجيا الجزيئية وبين اللغة. فإذا كانت اللغة تستطيع أن تولد معاني نحوية كثيرة من مفردات وحروف قليلة، فقد أظهر مشروع الجينوم خطأ التقديرات السابقة لعدد جينات النص الوراثي البشري، والتي تقدر حاليا بمالا يزيد عن 35 ألف جين، إذ لا بد أن يكون هذا الرقم غير دقيق، وإلا فكيف لهذا العدد المحدود من الجينات أن يولد كل هذه البروتينات والإنزيمات والوظائف الفسيولوجية، والخصائص البيولوجية والغرائز النفسية؟ لكن الإجابة جاءت عن طريق نظرية النحو التوليدي التي تتناول توليد الصيغ اللغوية المتعددة من حروف وكلمات ومقاطع محدودة.
وفي ظل ماطرحناه من "التوليد النحوي" الذي بدأه عبدالقاهر، وبنى حوله تشومكسي نظريته اللغوية، لا يبدو غريبا أن يكون عنوان المحاضرة التي ألقاها أحد علماء البيولوجي في حفل منحه جائزة نوبل هو : التوليد النحوي للحياة(18)
ثنائية البنية اللغوية:
لقد أقام الإمام عبدالقاهر نظريته في النَّظْم على ثنائية المعاني والألفاظ. إلا أنه قد أعلى من شأن المعاني وجعلها الأساس في اختيار الألفاظ وتركيبها، حيث قال: إنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ، من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك. فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل ستجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها، ولاحقة بها. وإن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق.(19)
على النسق نفسه تقريباً أقام تشومكسي نظريته اللغوية على أساس أن منظومة اللغة ذاتُ بنية ثنائية. ويقصد بذلك أن الجملة اللغوية لها بنية سطحية ظاهرة هي تلك التي ننطق بها (أي الألفاظ)، وبنية منطقية عميقة، وهي البنية التي تتشكل في مخ صاحب الجملة قبل النطق بها (أي المعاني المرتبة)... وعملية الإخراج الصوتي هي عملية تحول هذه البنية العميقة، أي البنية الفكرية، وقد تجسدت ألفاظاً، وأصواتاً، ونبراً وتنغيماً، وتقديماً وتأخيراً، وإظهاراً، وحذفاً، وإضماراً ... إلخ.
وهكذا نرى أن الثنائية اللغوية لدى العالمين واضحة. ولكننا نرى أن عبدالقاهر كان مبدعاً في تأكيده أن بنية اللغة إنما تبدأ في الذهن بالوقوف على المعاني وترتيبها، والعلم بمواقعها في النفس، وما يستتبع ذلك من دقة الاختيار والترتيب للألفاظ المنطوقة. وربما كان ذلك هو السبب في أن دي سوسير قد سمى الأفكار والمعاني "البنية العميقة".
لكننا ـ مع ذلك ـ نفهم من معنى "النَّظْم" أن عبدالقاهر قد جعل الثنائية تتلاشى في عنصر ثالث هو النَّظْم. وجعل البلاغة كلا متكاملاً من المعنى واللفظ معاً. وبما أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، فالنظم ـ إذن ـ عنصر ثالث. فالثنائية اللغوية قد تحولت على يديه إلى ثلاثية(20).
دي سوسير والبنيوية.
جاء اللغوي السويسري فردينان دي سوسير في بداية القرن العشرين ليؤكد ما قاله عبدالقاهر من قبل ثمانية قرون؛ فاللغة في رأيه "نظام" من العناصر القواعدية والمعجمية المترابطة. فهي ليست تلك الظاهرة المتمثلة في التجليات السطحية من الألفاظ والعبارات والنصوص؛ فتحت ظاهر سطحها، ترقد بنية عميقة متعددة العناصر والمستويات؛ نسق معرفي من العلاقات الفكرية التي تربط بين الأفكار والألفاظ؛ وبين مكونات تركيب الجمل والفقرات؛ وبين المعنى والسياق؛ وبين أصل اللفظ ومشتقاته؛ وبين تنغيم الكلام ونية المتكلم .. وهلم جراً. وهذه العلاقات في طبيعتها ليست علاقاتٍ اعتباطية عشوائية، بل يحكمها عدد من المبادئ العامة التي تشترك فيها جميع اللغات، كما سبق القول.
لقد قامت البنيوية لدى دي سوسير على ثنائية الرمز ومدلوله، ليمهد بهذه الثنائية للقاء اللغة مع المعلوماتية وجوهوها الثنائي المعروف.
ولما كانت اللغة هي "سندريلا"(21) العلوم ورابطة العقد في خريطة المعرفة الإنسانية، فقد امتدت البنيوية إلى مجالات معرفية أخرى . وكان أن طبقت في مجالات علم النفس، ونقد الأدب والشعر، والتنظيمات السياسية والاجتماعية. وقد يكون من المناسب في هذا المجال القول بأن عبدالقاهر كان أول من وضع أسسا علمية لنقد الأدب والشعر، وهي تلك التي أشار إليها في نظريته للنَّظْم التي سبقت الإشارة إليها.
وتقوم البنيوية لدى دي سوسير على ركيزتين : الأولى وجود علاقة عضوية بين الرمز اللغوي ومعناه، والثانية ضرورة الفصل في التحليل البنيوي بين الموضوع، وبين وجهة النظر الذاتية للشخص القائم بعملية التحليل؛ وذلك ضمانا للموضوعية في التحليل. سواء كان موضوع التحليل موضوعاً أدبياً أو أسطورة أو تنظيماً اجتماعياً.
العولمة تستخدم التفكيكية في هجومها الحالي :
تختلف التفكيكية مع التوجيهين السابقين ؛ فالرمز اللغوي أو اللفظ لا يحيل إلى معنى بعينه، كما في البنيوية، بل يحيل إلى رمز آخر، والرمز الآخر يحيل إلى رمز آخر .. وهكذا تسلم الرموز بعضها إلى بعض بطريقة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي. فالمعنى ـ بالتالي ـ مرجأ دوماً .. ليظل الكاتب أو القارئ يدور في حلقة مفرغة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي.(22)
وبناء على هذا الإرجاء والاستحالة في الوصول إلى المعنى، أطلقت التفكيكية حرية قراءة النصوص... حتى النصوص المقدسة. فهناك عدد لا نهائي من القراءات المحتملة لكل نص، وفقا لخلفية القارئ وهدفه من وراء القراءة. وعلى هذا الأساس جاءت نظرية القراءة التي أسسها جاك دريدا، والتي استحدثت منهجاً لتفكيك النص المكتوب، والكشف عن تناقضاته الكامنة، وثغرات فكر مؤلفه، ومناوراته اللغوية.(23).
والآن تستخدم العولمة الأسلوب التفكيكي في هجومها على الثقافات الأخرى، وخاصة الثقافة العربية الإسلامية، بقصد تقطيع أوصالها ، وعزل ثوابتها عن متغيراتها، ثم إعادة بنائها على نحو جديد لخدمة أغراض المعولِمين!
البنيوية وتدريس النحو:
ما دور النحو في الحفاظ على اللغة؟ وكيف يدرس وفقا لهذه النظرية؟
إن المدخل في تدريس اللغة ـ وفقاً لهذه النظرية ـ هو شرح النظام النحوي والصرفي ( البنية العميقة) ثم الانطلاق من هذه المعاني النحوية وقواعدها إلى المهارات اللغوية الأخرى والتطبيق عليها، من خلال الألفاظ والجمل والأمثلة والشواهد والنصوص .. إلخ وهو مانسميه حاليا بالطريقة "القياسية" في تعليم اللغة العربية للناطقين بها، وطريقة "النحو والترجمة" في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
لقد ظن البعض أن الطريقة القياسية تعود إلى عصر النهضة في البلاد الأوربية، كأثر من آثار الممارسة في اللغتين اليونانية واللاتينية. لكن التاريخ يروي لنا أن هذه الطريقة عميقة في ممارسة تعليم اللغة في التاريخ العربي الإسلامي، خاصة في كتاب سيبويه، وكتب ابن عقيل، وشذور الذهب، والأشموني وغيرها من الكتب التي تبعت الطريقة القياسية في تعليم العربية لأبنائها وطريقة النحو والترجمة في تعليم العربية لغير الناطقين بها.
والطريقة القياسية هي إحدى طرق التفكير التي يستخدمها العقل في الوصول من المعلوم إلى المجهول. والفكر في القياس ينتقل من القاعدة العامة إلى الحالات الجزئية بناء على القاعدة؛ أي من القانون العام إلى الحالات الخاصة.ولما كانت الجزيئات قد لا تنطوي كلها تحت القاعدة العامة ؛ فقد أدى هذا إلى الحذف ، والتقدير، والتأويل، واختلاف الآراء في المسألة الواحدة. لكن المشكلة أن تدريس النحو صار غاية في ذاته لدى المتأخرين؛ حيث نظر إليه على أنه وسيلة لتنمية ملكات العقل وطريقة التفكير، بصرف النظر عن الممارسة اللغوية الصحيحة!
وتقوم طريقة النحو والترجمة في التدريس على شرح القواعد والانطلاق منها إلى تعليم قراءة النصوص العربية وترجمتها إلى اللغات الأم أو اللغات المحلية. وقد اعتمد على هذه الطريقة في تعليم العربية في جنوب شرق آسيا، وفي أفريقيا. حيث كان الطلاب يحفظون سور القرآن، وتشرح لهم الألفاظ والمعاني، ثم تشرح القواعد التي تساعد على فهم التراكيب، ثم يدربون على قراءة النصوص وكتابتها وترجمتها إلى اللغات المحلية.
ومن أهم منطلقات هذه النظرية في تدريس اللغة ما يأتي:
1. اللغة نظام من القواعد النحوية التي لابد من فهمها كشرط لممارسة اللغة على نحو صحيح.
2. اللغة نشاط ذهني، وتدريب عقلي، يشتمل على تعلم نظام اللغة، وتذكر قواعدها، والتفريق بين المعاني النحوية، ثم القياس عليها من الأمثلة والنصوص.
3. نظام اللغة وقواعدها النحوية والصرفية هو الإطار المرجعي لتعليمها وتعلمها.
4. سيطرة الدارسين وفقاً لهذه النظرية يكون على مهارات القراءة والكتابة قبل الاستماع والكلام.
طرائق التدريس وفقا للنظرية البنيوية:
الطرائق المتبعة في تدريس العربية وفقا للنظرية البنيوية كالطريقة القياسية وطريقة النحو والترجمة، تسير غالباً على النحو الآتي:
1. يلم الدارس بقواعد اللغة العربية ويتعرف على أصواتها وقواعدها وخصائصها أولاً.
2. تقدم القواعد النحوية حسب الترتيب المنطقي لها، ثم يتم القياس عليها عن طريق الشواهد والنصوص البلاغية.
3. تقدم الأمثلة والنصوص والتراكيب حسب ما يقتضيه نظام اللغة وقواعدها؛ فالألفاظ تابعة للمعاني النحوية. والطلاب - بمساعدة المعلم - يردون الفروع إلى الأصول ويطبقون القواعد على النصوص.
4. ضبط النصوص والأمثلة والشواهد مرتبط بمعرفة النظام اللغوي والقواعد النحوية والصرفية.
5. "إذن فتنمية قدرات الطالب العقلية هدف أساسي من أهداف هذه الطريقة حتى يستطيع مواجهة مواقف التعلم المختلفة بمشكلاتها غير المتوقعة. من هنا يتدرب الطالب كثيرا على القياس النحوي، وعلى استقراء القاعدة النحوية" في الأمثلة والشواهد والنصوص البلاغية.(24)
النظرية السلوكية
أرى أن النظرية السلوكية لم تبدأ حديثا مع السلوكيين في القرن العشرين وإنما تمتد جذورها عبر التاريخ إلى العلامة ابن خلدون المتوفي سنة 727هـ، وإلى نظريته المسماة "الملكة اللسانية".
تقوم نظرية الملكة اللسانية عند ابن خلدون على أسس ثلاثة:
أولها : أن "السمع أبو الملكات اللسانية"(25)
ثانيها: أن اللغة هي "عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان".(26)
ثالثها: أن تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو، الذي هو علم صناعة الإعراب.
أما السلوكيون المحدثون فقد تمثلت آراؤهم في كتاب "السلوك اللغوي" الذي أصدره عالم النفس السلوكي المشهور سكنر عام 1957م. فقد لجأ السلوكيون في محاولتهم تفسير السلوك اللغوي إلى العوامل الخارجية التي تؤثر فيه. فالسلوك اللغوي في نظرتهم عبارة عن مثير واستجابة.
وقد شن تشومسكي هجوما عنيفاً في مقالة له عام 1959 ينتقد فيها كتاب سكنر سالف الذكر ورؤيته السطحية للسلوك اللغوي.
وبعد الستينيات انتقل الاهتمام إلى المتعلم ذاته باعتباره عاملاً أساسياً وفاعلاً في عملية تعلم اللغة. ومن ثم بدأ التركيز على المتعلم وحاجاته والأغراض التي يتعلم اللغة من أجلها.
كيف يكتسب الإنسان اللغة؟
ولكن كيف يكتسب الإنسان اللغة؟ سؤال طرح كثيراً دون إجابة شافية في معظم الحالات. نحن ندرك المدخلات إلى الموقف التعليمي؛ لأن هذا نصنعه بأيدينا. ونحن قادرون على قياس المخرجات عن طريق أساليب القياس المختلفة. لكننا لاندري حتى الآن ماذا يحدث داخل العمليات، أي داخل المخ الإنساني، هذه المعجزة المحيرة، صنع الله الذي أحسن كل شيء.
سكنز والسلوكيون:
للإجابة عن السؤال الذي بدأنا به هذا الحديث، وهو كيف يكتسب الصغار اللغة الأم؟ على نفس النمط تقريباً الذي قال به ابن خلدون استحالت اللغة في نظر سكنر، صاحب النزعة السلوكية المحضة في علم النفس المعرفي إلى نظام لاكتساب العادات. فهي نوع من أنواع السلوك الشفاهي لا يختلف عن غيره من أنواع السلوك الأخرى، التي يكتسبها الفرد من خلال الخبرة، والتجربة، والمحاولة والخطأ. وبذلك تحولت اللغة إلى مجرد نوع من أنواع السلوك السمعي الشفاهي! كما رأينا عند ابن خلدون.
وبهذا التفسير حاول سكنر أن يخضع اللغة قسرا لثنائية المثير والاستجابة. أي أن اللغة مدخلات ومخرجات. وأغفل بذلك جوهر القضية، حيث يكمن السر اللغوي، أي العمليات التي تحدث بين المثير والاستجابة. باختصار لقد افترض سكنر عدم وجود علاقة أو وسيط بين المثير والاستجابة، وربط بين المثير ورد الفعل مباشرة دون اعتبار لما يحدث بينهما داخل المخ الإنساني.(27) وذلك خلافا للفهم البنيوي الذي يفترض وجود بنية عميقة داخل المخ البشري لمعالجة المعلومات اللغوية وغير اللغوية. وبذلك وضعت البنيوية أساس علم النفس المعرفي.
اكتساب اللغة : نموذج ابن خلدون وسكنر
فلو أخضعنا هذا النموذج لمفهوم النُّظُم المكون من مدخلات وعمليات، ومخرجات، فإننا نجد أن نموذج سكنر قد قفز فوق العمليات ولم يعترف بوجودها أصلاً. أما ابن خلدون فقد حاول وصف ما يحدث داخل النفس نتيجة الحفظ والتكرار فقال: "إن الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقوم أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة. ثم يزداد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة".
وعلى العكس من ذلك، فقد تأثر كل من دي سوسير وتشومكسي بافتراض كانط وجود قدرة ذاتية كامنة في العقل الإنساني، أو "غريزة" لغوية تتوارثها أجيال البشر أو بنية عميقة قوامها نسق معرفي كامن في العقل يربط بين المدخلات والمخرجات.
وفي غياب البحث العلمي التطبيقي لإثبات صحة هذه الفرضية لجأ تشومسكي إلى التجريد الفلسفي لإثبات وجود هذه الغريزة لكي يفسر الكيفية التي يكتسب بها الأطفال لغتهم الأم، وذلك بتطويع هذه الغريزة للمطالب الخاصة للبيئة اللغوية التي ينشأون فيها... وهكذا استحالت اللغة وفقا لهذا النموذج الافتراضي إلى غريزة بشرية أو إنسانية عامة، مثلها مثل غيرها من الغرائز التي يشترك فيها الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وبيئاتهم الاجتماعية.